كنا قد تحدّثنا طويلاً في أجزاء سابقة في هذا المكان عن ضرورة عدم التخلّي عن العلوم الإنسانية في المناهج التعليمية ومعاملتها بنفس الأهمية التي نُوليها للعلوم الطبيعية والتقنيّة لسبب واضح وجلي وهو أن العلماء أنفسهم في الطرفين، وليس الصحفيون أو الإقتصاديون، قد أقرّوا بهذه الحاجة الملحّة للعلوم الإنسانية في ظل هذا الزخم الكبير والسيطرة الكاملة للتقنية على الإنسان وخاصة على الأجيال الجديدة التي عصفت بها تيارات عصر ما بعد الحداثة إلى الدرجة التي فُقِد فيه التواصل الاجتماعي بين أفراد الأسرة الواحدة بسبب ما اصطُلِح على تسميته بشبكات التواصل الاجتماعي وهي أبعد ما تكون عن التواصل الإجتماعي.
بنفس الطريقة في نحت المصطلحات الزائفة، مصطلح “الذكاء الصناعي” الذي اجتاح العالم مؤخراً وتصدّرت أخباره مانشيتات الصحافة العالمية هو مصطلح زائف أقرب ما يكون إلى “الغباء الصناعي” لأنه لا يحمل أي صفة من صفات الذكاء الطبيعي التي خلقها الله وكرّم بها بني آدم من دون المخلوقات الأخرى. وهذا يأخذنا مباشرة إلى الأمانة التي عرضها الله على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وحملها الإنسان في نهاية الأمر وهو بهذا يقع تحت طائلة المحاسبة من الله عز وجل إن هو أخلّ أو قصّر في أداء الأمانة التي أوكلها الله بها وهي عمارة الأرض بالحق والعدل. الإستمرار بالتقدّم دون قيد أو شرط في طرح منتجات “الذكاء” الصناعي في السوق وأمام كل من هبّ ودبّ ، يتناقض مع هذه الأمانة ويفضي إلى نتائج وعواقب وخيمة الله وحده يعلمها، كما صرّح بهذا أحد أشهر العلماء المتخصصين والبارزين في هذا الاتجاه وتصدّرت أخباره عناوين الصحف العلمية خلال الأيام الماضية.. فماذا قال؟
يقول عرّاب الذكاء الصناعي كما يسمّونه جفري هينتون، المتخصص بالتعلّم العميق، في حديثه الحصري مع جريدة الجارديان البريطانية:( إن هناك تهديداً وجودياً ينتظر الإنسان إذا لم نستغل السنوات القادمة، 30 إلى 50 سنة، في إيقاف هذه المشكلة التي تنبع من وجود نظام رأسمالي يجعل من الشركات المتنافسة تتسابق إلى الظفر بالإنتاج دون النظر إلى العواقب.)
يجدر بالذكر أن هينتون قدّم استقالته من شركة غوغل التي يبدو أنها تقود أبحاث هذه الإكتشافات التقنيّة المتلاحقة.
التوبة التي أعلنها هينتون لجريدة الغارديان ليتفرّغ كما يقول لتحّذير الناس من خطر الذكاء الصناعي ، شبيهة بالتوبة التي تحدثنا عنها سابقاً في هذا المكان عن روبرت أوبنهايمر الذي قاد الفريق البحثي الذي توصّل للمعادلة الرياضية التي أفضت إلى القنبلة النووية.
نحن نعيش في عصر على قدر كبير من الغموض وعدم اليقين. يقول هينتون محذّراً: ” أنا لست رجلاً يضع سياسات. أنا فقط أصبحت على وعي بشكل مفاجئ بأن خطراً محدّقاً حول شيء سيء سيحدث. أريد فقط من أولئك الأذكياء الذين يشتغلون بالذكاء الصناعي، وليس فقط الفلاسفة والسياسيين وواضعي السياسات أن يفكّروا بجدية بهذا الأمر.”إنتهى كلامه.
أبعد هذا الحديث تستكثرون العودة للعلوم الإنسانية؟
khaledalawadh@