اجتماعية مقالات الكتاب

هل إفساد الذوق العربي أصبح هدفًا؟

الفن الراقي هو غذاء للعقول والنفوس والوجدان البشري، ومن الرائع حقًّا أن تُصبح كل أشكال الفنون الراقية حافزًا للهِمم، وسياجًا قويًّا يتم من خلاله المحافظة على قيم المجتمع وأخلاقياته!! لكننا في الواقع لا نفهم السر وراء استخدام الفنون المختلفة حاليًّا – وبخاصة الدراما والغناء – في إحداث تغيير في قيم وأخلاق الإنسان العربي!! ومن الأمثلة على ذلك ما يُسمى بـ (الأغاني الشعبية الفجَّة) المنتشرة حاليًّا في مصر والعالم العربي؛ إذ لا مجال للمجادلة في تأثير مصر في أمتنا العربية وخصوصًا في المجال الفني، وتحديدًا في الدراما والغناء.

وقد تناقلت الفضاءات الإعلامية المختلفة مؤخرًا أصداء معركة الأغنية الشعبية الدائرة في مصر بين نفرٍ من الناس في مقدمتهم نقيب الموسيقيين المصريين (هاني شاكر) وبين مؤيدي ما يُسمى بـ (أغاني المهرجانات) ولا نفهم على وجه الدقة مَنْ الذي منح هذه الأعمال صفة الغناء؟!

في الحقيقة لقد وجدت الأغنية الشعبية الهادفة فرصة للعيش منذ زمن بعيد كلون هادف من ألوان الموسيقى والغناء، وهذا لا يقتصر على مصر وحدها بل يشكِّل جزءًا من المشهد الفني العام في مختلف أنحاء العالم؛ حيث تتواجد نوعيات عديدة من الفنون الشعبية وتنتشر بين أوساط عامة الناس في كل المجتمعات، وتمثِّل نوعًا من الفلكلور أو التراث الشعبي الذي هو جزءٌ مهم وأصيل من الوجدان الجمعي والهويَّة المميزة لكل مجتمع.

لكن مهما يكن من أمر فإن الأغاني التي تُنْعَت بأنها شعبية وتُصنَّف على هذا الأساس تبقى دائمًا متحلية بخصائص وسمات فن الغناء، وتتوافر فيها الكلمات والمفردات اللغوية الراقية والمعاني الجميلة والأفكار الجيدة، وتكون في مجملها بعيدة عن الإسفاف والابتذال، وتُعبر عن قيم المجتمع، وتعكس معاييره الأخلاقية.

وقد أبدع جيل من شعراء العامية في مصر في تأليف الكثير من الأغاني الشعبية الراقية التي شدا بها مطربون كُثر، وبثَّتها الإذاعات العربية على مر عقود من الزمن، وما تزال تبثها حتى الآن، ومن بين هؤلاء: عبد الحليم حافظ، ومحمد رشدي، ومحرم فؤاد، ومحمد قنديل، وشادية، وفايزة أحمد … وغيرهم.

ومن خلال الرصد لمسيرة الأغاني الشعبية على مدى عقود من الزمن يؤكد المتخصصون في هذه النوعية من الدراسات أن الغناء الشعبي الأصيل هو فن راق كبقية الفنون، له معايير واضحة، ومقوِّمات فنية محددة، هي: الكلمات الهادفة، والمعاني الإيجابية الجميلة، والموسيقى والألحان العذبة التي تُناسب الذوق الشعبي، وهذه الأغاني – كغيرها من ألوان الفن الهادف – تلتزم بقيم المجتمع وأخلاقه، وتراعي الذوق العام، وما يجب أن نُنشِّئ عليه الأجيال والأسر العربية، ولا يمكن للغناء الشعبي الأصيل أن يتجاوز هذه الحدود، لا في الكلمات والألفاظ، ولا في المعاني والأفكار.

لكن في السنوات الأخيرة ظهر على الساحة الفنية في مصر – والعالم العربي – مَنْ يُطلق عليهم (مطربون شعبيون) يغنون ما يُسمى بـ (المهرجانات)، وهي عبارة عن ظواهر صوتية سلبية تُقدم سلعةً رديئة بعيدة عن الفن والثقافة، ولا تمت لهما بصلة لا من قريب ولا من بعيد!!

ولا نفهم ما سر نشر هذا الغُثاء في المجتمع؟!! ولماذا يُصِر البعض على وصف ذلك العبث بالفن؟ وأي فنٍ في أعمال سيئة تُدمِّر الأخلاق، وتهدم القيم، وتنشر مساوئ الأخلاق، وتُمجِّد السلوكيات المنحرفة غير السوية، وتُشجع على اختلال قيم ومعايير المجتمع العربي الأصيل، وتُرسخ فكرة أن ينسلخ الشخص من كل شيء، ويعيش لنفسه فقط، مجرد عبد لنزواته وغرائزه!!

ما يحدث على صعيد الغناء والدراما في مصر والعالم العربي ليس مجرد اختلاف أذواق، ولا صراع أجيال، ولا مجرد معركة بين القديم والحديث، إن محاولة تحطيم القيم الأخلاقية والمجتمعية أضحت منهجًا واضحًا ومحاولة ممنهجة لإحداث تغيير في قيم المجتمعات العربية وتدمير بنيتها الأخلاقية، وهناك على ما يبدو خطة لتشويه هذه المجتمعات وتدمير منظومتها القيمية، وكأن إفساد الذوق العربي أصبح هدفًا في حد ذاته؟!! والسؤال الأهم هو: لمصلحة مَنْ يجري تسطيح الشخصية العربية المعاصرة، وهدم منظومة القيم داخلها بهذا الشكل؟!!
أكاديمي وكاتب رأي

GhassanOsailan@

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *