متابعات

المتنبي على أرصفة الحراج

جدة ـ ياسر بن يوسف – تصوير: خالد بن مرضاح

حينما نشاهد الكتب القديمة تباع في الارصفة تستعيد الذاكرة مشاهد التاريخ الأدبي والثقافي وهو يباع بأرخص الاسعار على ارصفة المدن بدءا من شارع المتنبي في بغداد مرورا بسور الازبكية في القاهرة وردهات سوق الصواريخ في جدة حيث يرتمي غذاء الروح والفكر على الأرصفة، وإذا امعنت النظر في العناوين التي على الرصيف، تجد المجموعة الشعرية الكاملة لأبي الطيب المتنبي ودواوين بدر شاكر السياب بدءا من أنشودة المطر وحتى شناشيل ابنة الشلبي فضلا عن أشعار صلاح عبدالصبور وامل دنقل ومحمد الثبيتي وروايات نجيب محفوظ وكتب عباس محمود العقاد، وحتى الروايات العالمية لها نصيب في الأرصفة الترابية بين قطع العفش والأثاث ، تراها كأنها قطع أثرية نادرة ، وتجد عشاق الكتب يتصيدون الإصدارات الشهيرة في سوق الحراج، مجموعات نادرة كانت تزين مكتبات بيوت بعض الأسر.

“البلاد” تجولت في ردهات سوق الصواريخ جنوبي جدة وكشفت الجولة عن الحال التي آلَت إليها الكتاب من إهمال ، فهناك مكتبات عائلية ضخمة عامرة بـ” الدسم الأدبي والفكري ” باعها الورثة إلى مكتبات الرصيف بعد أن اصبحت حملا ثقيلا على ردهات منازلهم وباتت تعاني من الوحشة وتستجدي القراء.

كما أصبحت “كتب الرصيف” ظاهرة ثقافية واجتماعية لم تنل نصيبها من الالتفات والدراسة العميقة لأسباب انتشارها، ربما لأنها تبدو خارجة عن نطاق الاهتمامات التقليدية للمثقفين، فهي لا تتمثل في منتج فني أو أدبي بقدر ما تشمل مجموعة واسعة من الظواهر الفنية وأنماط السلوك وطرق التفكير التي تعكس قدراً من التغيير في المفاهيم والقيم السائدة منذ زمن في المجتمعات العربية ، ورغم كل ذلك فإن للكتب القديمة التي ترتمي على الأرصفة عشاقها.


الكاتب وائل سعود العتيبي قال: أن وجود المكتبات على الأرصفة يساعد على المعرفة وتشجيع الاهتمام بالكتاب وتعزيز شغف القراءة بين شتى فئات المجتمع ،فللكتاب اهمية في حياة أفراد المجتمع كبارا وصغارا من خلال المكتبات حيث يسهل ربطهم بالقراءة وتسهيل اكتسابهم المعرفة خلال المراحل العمرية المختلفة فمن شأن ذلك أن يسهم في بناء شخصياتهم على أسس سليمة وتوسيع لمداركهم، حيث تطمح هذه المكتبات من خلالها إلى بيع الكتب المستعملة بأسعار رمزية لتتم إعادة الاستفادة منها وليكون الكتاب في متناول الجميع.

غياب الوهج
من جهته قال يوسف الغامدي، صاحب مكتبة في حراج الصواريخ.. أن الكتاب لم يعد يمتلك الوهج الذي كان يتفرد به حيث خطفت التقنية الحديقة بريقه ، لافتا إلى أنه ما زال عاشقا للكتاب وان افضل الكتب هي المكتبات التي يتم بيعها عبر الورثة الذين لا يعلمون ولا يقدرون قيمتها أقتنيها لنفسي فكم من درة احتفظت بها. أنا أحب القراءة جدًّا منذ الصغر؛ فوالدي -رحمه الله- يمتلك مكتبة كبيرة، كنت أستنير منها، فبعد تقاعدي تحولت من غذاء البطون إلى غذاء العقول فكانت هذه الانطلاقة، وقد تشرفت بخدمة الكتاب لأكثر من ١٥ سنة، فخدمة الكتب شرف، لقد عرفتني على أشياء كثيرة، وكسبت منها الكثير في شتى الجوانب. ويضيف: في السابق كان يأتي إلى هنا العائلات والشباب والطبقة المثقفة .. والآن اغلب زبائني من الفتيات لاقتناء الروايات.

حمل ثقيل
من جانبه قال “عيسى رضا” لم يعد الجيل الجديد يقرأ الكتب، إلا نادراً، لأسباب عدة، في مقدمتها ظهور الإنترنت ووسائل الإعلام المتعددة وضيق الوقت، ومشاغل الحياة اليومية، وربما ارتفاع أسعار الكتب. لكن هذه الأسباب لن تقف حائلاً أمام من يحرص على القراءة كطقس دائم من طقوس حياته ،لافتا إلى أنه من المؤسف أن نجد التاريخ يرتمي على الأرصفة. أما بخصوص المكتبات الخاصة الموجودة أصلاً لدى العديد من العائلات فهذه تصل غالباً إلى الورثة الذين لا يعرف بعضهم قيمتها وأهميتها، فيقومون ببيعها إلى مكتبات أكبر أو بتقديمها إلى مكتبات عامة جامعية أو رسمية بغية استفادة أكبر عدد من القرّاء منها. وهناك بعض الورثة الذين يرون الكتب التي تركها لهم أهلهم مجرد حمل ثقيل يجب التخلص منه، فيقومون ببيعها إلى الباعة المحليين الذين بدورهم يفتتونها ويحوّلونها من كتلة واحدة إلى كتب تُباع على الأرصفة. بل ويرمي بعض الورثة الكتب مع سائر الأثاث المتروك والمنفي.

كنز دفين
ويقول في ذلك الكاتب والباحث الدكتور زيد الفضيل: يظل للكتاب قيمة عظيمة في نفوس وأذهان محبيه، فالكتاب بما يحويه من معرفة يمثل شعلة نور تستضيء به دروب الحكمة والبصيرة النافذة، ولا يهم إن كان كتابا جديدا أو مستعملا، بل قد تجد في الكتاب المستعمل كما يقال وهو الكتاب المعاد بيعه من قبل صاحبه لظرف ما، أقول قد تجد فيه فائدة كبرى جراء ما يمكن أن تحتويه صفحاته من تعليقات وشروحات تفسيرية، لاسيما إن كان كتابا عميقا في مضمونه، وكان صاحبه عالما في فنه، وهذا هو الكنز الدفين الذي لن يعرف قيمته إلا قارئ حاذق، وقليل ما هم في وقتنا. على أن قيمة الكتاب المستعمل لا تتوقف عند ذلك، بل تتمثل في أن يكون الكتاب قديم الطبعة ويحمل توقيعا نادرا لصاحبه، وهي ميزة يهتم بها البعض من محبي جمع الكتب القديمة.

فكثرة بيع الكتب المستعملة وبخاصة حين تكون مكتبة بأكملها وليس كتبا متفرقة، يدل على ضمور حالة المعرفة في المجتمع، فتلك المكتبات التي يتم بيعها في سوق الحراج المستعمل وهي إهانة ما بعدها إهانة، قد جمعها صاحبها بجهده وعرقه ووقته الثمين، ثم يأتي ورثته ليفرطوا فيها تفريطا مهينا دون أي احترام وتقدير لمن جمعها أبا كان أو غيره، ولو كانوا من أهل المعرفة لما فعلوا ذلك، وبالتالي فبيع المكتبات جملة علامة وهن وضعف مجتمعي بالدرجة الرئيسة، أما بيع كتب متفرقة فالأمر بخلافه، لكون ذلك قد يتم من قبل صاحب المكتبة نفسها رغبة في تخفيف العبء عليه مساحيا، وربما لأنه لم يعد بحاجة إليها بعد قراءتها، وهو ما يقوم به عديد من الباحثين الذين يراجعون مكتباتهم بشكل دوري، ولعلي أحدهم، فالكتاب غير المرجعي والذي لم أطالعه مرة أخرى لمدة سنتين أو ثلاث أقوم بإخراجه وإهدائه لمكان آخر فلعل من يستفيد منه، وفي ذلك تدوير للمعرفة بشكل إيجابي.

أجهزة الاتصال
ترى اميمة عقاد إن تطور أجهزة الاتصال مثل التلفاز والإنترنت أثّرت بشكل أساسي في تدني مبيعات الكتب الورقية وتراجع القراءة، بدليل أن الإقبال على الكتب في الدول الغربية لا يزال كبيرا حتى في ذروة الأزمة الصحية المرتبطة بالوباء.


فيما تقول ” رانيا العقاد ” اعتبر الكتب الورقية أحد أهم الأشياء التي طالتها التأثيرات المرتبطة بالطفرة الرقمية إذ ظهر على الساحة ما يُعرف بالكتاب الرقمي أو الإلكتروني. هذا الكتاب الرقمي، انتشر انتشارا واسعا بين القراء والكتاب وتحديدا مع انتشار الأجهزة المخصصة لذلك ، حيث أصبحت المكتبات الرقمية ملاذًا للعديد من طلبة المدارس والجامعات بتوفيرها محتوى إلكترونيا مجانيا للكتب على اختلافها، وذلك لسهولة الوصول إلى المحتوى الإلكتروني من الكتب في ظل توافر خدمات شبكة الويب أكثر من السابق فأصبحت معظم الكتب والمؤلّفات والمخطوطات متوافرة بصفة رقمية، كما أضحت المكتبات الرقمية شائعة للغاية ويُمكن الوصول إليها بكل سهولة، وللأسف فإن دور النشر والمؤلفين لا يواكبون عمليات التسويق الحديثة، بل إنهم بقوا متمسكين بطرقهم الكلاسيكية، مما أوجد فجوة بين الجيلين السابق والحالي في طريقة تلقي الكتاب، حيث كان الجيل السابق باحثا خلف الكتاب أما الآن قد اختلف الأمر وأصبح الكتاب الرقمي مهملا.

كتب ممهورة بتواقيع مؤلفيها
ربما لم يدر بخلد مؤلف ما أن كتابه الذي أهداه إلى صديق أو معرفة أو عاشق لحرفه، سيلقى هواناً على أرصفة أسواق الحراج وبيع الخرد في سوق الصواريخ الشهيرة. تلمح كراتين لا حصر لها من الكتب، وبمجرد أن تفتح الغلاف تجد إهداءً من المؤلف بخط جميل وتوقيع جذاب وتاريخ الإهداء. تحاول استيعاب ما يحدث. تستعيد شقاء المؤلف: قراءة، وسهراً وكتابة، وتأليفاً وطباعة، وإخراجاً وتوزيعاً.. وفي النهاية يعرض نتاجه كأي بضاعة كاسدة عديمة الجدوى، أو كصندوق العرس الخردة وهذا السيناريو تجده في كافة الكتب على ارصفة المدن الشهيرة حيث أصبح الكتاب مهملا.

ومؤخرا أثارت صورة لاعب الكرة محمد صلاح ضجة على مواقع التواصل الاجتماعي، إذ تم تداولها آلاف المرات مرفقة بصورة لمجلد كتاب» فن اللامبالاة.. لعيش حياة تخالف المألوف» لصاحبه المؤلف الأمريكي مارك مانسون ، صورة « ابو مكة «جعلت المغردين يتسابقون على تحميل الكتاب والبحث عنه عبر محرك البحث غوغل. كما اجتاحت عبارة « اللامبالاة» مواقع التواصل الاجتماعي في عدد من الدول العربية لبعض ساعات.

فمحمد صلاح بصفته نجمًا عندما يراه الشباب الذين يتابعونه بشغف وفى يده كتاب، سيتأكدون – وهذا أمر مهم جدا – أن الثقافة والقراءة لا تعيق إنسانا عن تحقيق حلمه فى أي مجال، وبالتالى قد يؤدي ذلك مع الوقت إلى صناعة جيل جديد يقرأون من أجل التشبه به.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *