اجتماعية مقالات الكتاب

الإنترنت وساعي البريد

قبل أن يعصف الإنترنت بحياتنا ليحولها إلي حياة إلكترونية خالية من أية مشاعر، كنا نسهر على ضوء الشموع لنكتب خطاباً بخط اليد نرسله لأحبابنا وأصدقائنا، ثم نجلس ننتظر لأيام وحتي شهور علي أمل أن يأتينا الرد.

مع اكتساح التكنولوجيا للحياة اليومية، أصبحت التكنولوجيا هي التي تترجم مشاعرنا، لقد تحولنا لأشخاص مبرمجين على التكيف مع الآلة، فقدنا متعة الانتظار والشغف ولهفة الوصول، تداخلت كل الأصوات ولم يعد صوت ساعي البريد يمكن تمييزه على بعد مسافات
لقد اختفى للأبد من المشهد ساعي البريد الذي كان يأتي لينادي معلناً وصول الرد على ورقة تحمل رائحة صاحبها الذي نشتاق إليه كثيراً، تغيرت مفاهيم التواصل بين البشر حتى في المشاعر.

الرسالة الإلكترونية الآن قد تسعدنا وقد تبكينا، قد توصلنا وقد تبعدنا، ضغطة زر هي السبيل الوحيد الآن للوصول للسعادة أو التعاسة، لم يعد هناك حاجة لانتظار الصديق للالتقاء من جديد فقد نجلس لسنوات دون أن نتقابل ونكتفي بالتواصل الإلكتروني.
لا يختلف الأمر كثيراً بين أشكال العلاقات الاجتماعية الأخرى، فالارتباطات الإنسانية أصبحت كلها افتراضية يمكن أن تستمر ويمكن أن تنتهي في ثواني، لقد ألغى الإنترنت الإحساس بالمسافات وحرارة اللقاء، نتفق أن لكل شيء جوانب إيجابية خاصة حينما نتحدث عن الاستفادة من الإنترنت في التواصل مع الأشخاص البعيدين عنا بدول أخرى.

ولكن بالرغم من ثورة الاتصالات الحديثة، إلا أننا في النهاية سيظل لكل منا زاوية دافئة يعود إليها حينما تشتد عليه عواصف الأيام، وستظل أجمل زاوية في حياة كل منا، هي مشهد بائعة الورد والزيارة المفاجئة لساعي البريد الذي يحمل جوابات الأحبة الذين انتظرنا رسائلهم بشوق ولهفة طويلاً لمعرفة تفاصيل حياتهم. تلك اللحظات التي يصحبها افتقاد كبير للدفء وأحلام كثيرة معلقة علي آمل اللقاء القريب، لا يمكن لأي تكنولوجيا في العالم أن توصلنا لها مهما طور الإنسان من الآلة لخدمة البشر.

إنني أشعر بالشفقة على الأجيال الحديثة التي حرمت من متعة الانتظار والإحساس بقيمة الأشياء، تلك الأجيال التي ترعرعت على ثقافة المشاعر الإلكترونية، أتمنى أن أجد بينهم شخصاً واحداً على الأقل يحن لأن يكتب رسالة بخط يده، بالرغم من خيبة الأمل التي أعلمها جيداً لأنني أدرك بأنني عندما أعطي أحدهم ورقة وقلم لكي يكتب جواباً لن يعرف من أين يبدأ، لأنه ببساطة لا يعلم أهمية الرسالة الورقية وجمالها أو حتى أدب الرسالة.
ومن هنا ندرك أنه لا عزاء لاستعادة فن الرسائل سوى الاكتفاء بالحديث عنها وتذكرها حينما نتحدث عن كل ما يتعلق بالماضي الجميل.
Nevenabbas88@gmail.com

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *