مقالات الكتاب

التعاطف المستدام في عصر الذكاء الاصطناعي.. هل يفقد قادة القطاعات إنسانيتهم؟

في أغسطس من هذا العام نشر الكاتب توبي ليستر مقالًا لافتًا في مجلة هارفارد بزنس ريفيو بعنوان: الذكاء الاصطناعي يجعل أزمة التعاطف في بيئة العمل أكثر حدة. المقال تناول ظاهرة تراجع التعاطف في أماكن العمل، وكيف أن صعود تقنيات الذكاء الاصطناعي زاد هذه الأزمة تعقيدًا وحدة. وبينما كنت أقرأ هذا الطرح، وجدتني منشغلًا بسؤال جوهري: هل يستطيع قادة القطاعات الحكومية والخاصة أن يحافظوا على إنسانيتهم في زمنٍ تتسابق فيه الآلات لمحاكاة مشاعرنا؟
لقد اعتاد الناس في الماضي أن ينظروا إلى التعاطف باعتباره ضعفًا، وأن القائد الناجح في قطاع ما هو من يتحلى بالصرامة، ويضع العواطف جانبًا. لكن الأبحاث الحديثة، كما أشار عالم النفس جميل زاكي، أثبتت أن التعاطف ليس ضعفًا، بل هو قوة مضاعفة. المؤسسات التي تنشر ثقافة التعاطف ترى مستويات أعلى من الولاء الوظيفي، وإقبالًا أكبر على الإبداع والمجازفة، وانخفاضًا واضحًا في مؤشرات الاحتراق النفسي والجسدي. ومع ذلك، فإن التعاطف إذا مورِس بلا حدود قد يتحول إلى سلاحٍ ذا حدّين، إذ يرهق قائد القطاع عاطفيًا ما لم يتبنَّ ما يُسمى بـ”التعاطف المستدام”، أي القدرة على الاهتمام بالآخرين دون أن يفقد المرء توازنه الداخلي.
المشهد اليوم أكثر تعقيدًا.
القادة التنفيذيون يظنون أنهم يمارسون التعاطف بدرجة كافية، بينما يشعر الموظفون بأن القيادة بعيدة عن بعضهم. الفجوة بين الطرفين لم تعد مجرد أرقام في استطلاعات الرأي، بل انعكاس لانفصال واقعي يزداد اتساعًا مع دخول أدوات الذكاء الاصطناعي، التي تحاول تقليد “التواصل العاطفي” من خلال رسائل آلية أو روبوتات محادثة تبدو لطيفة في ظاهرها، لكنها في جوهرها خاوية من الروح.
الأدهى من ذلك ما يمكن أن نطلق عليه “غسل التعاطف”، حين تستخدم الشركات روبوتات الدردشة لتقول للموظف أو العميل: نحن نهتم بك، بينما الممارسات الفعلية داخل المؤسسة تكشف عكس ذلك. هذه الخدع قد تنجح لحظة، لكنها سرعان ما تفقد مصداقيتها وتترك الناس أكثر عزلة. والمفارقة أن جيل الشباب، رغم قلقه من فقدان وظائفه لصالح الذكاء الاصطناعي، صار يلجأ إلى هذه الأدوات لطلب النصائح المهنية التي لم يجدها عند مدرائه المباشرين. تشير الدراسات إلى أن نصف هذا الجيل تقريبًا يرى أن النصائح التي يحصل عليها من الخوارزميات أكثر فائدة من تلك التي يقدمها البشر. وهذه الحقيقة وحدها كفيلة بأن تجعل كل قائد يعيد التفكير في دوره وموقعه.
ومع ذلك، لا يخلو الأمر من جانب إيجابي. فهذه الأدوات الرقمية، رغم محدوديتها، تعلّمنا درسًا مهمًا: أنها تبدأ بالاستماع وتأكيد مشاعر الآخر قبل أن تقدم أي نصيحة. هذا السلوك البسيط يكشف عن تقصير بشري شائع؛ إذ إن كثيرًا ما نحول المحادثة إلى مساحة لعرض خبراتنا أو فرض حلولنا، بينما يحتاج الطرف الآخر فقط إلى أذنٍ صاغية. من هنا يمكن للقادة التنفيذيون أن يستلهموا من “دفتر قواعد” الذكاء الاصطناعي بعض العادات الإيجابية، لكن دون أن يتخلوا عن اللمسة الإنسانية التي لا يمكن لأي آلة أن تعوّضها.
الحقيقة التي ينبغي أن تبقى حاضرة في وعينا أن التعاطف البشري يستمد قيمته من كونه فعلًا يتطلب تضحية بالوقت والجهد والطاقة. هذه التضحية هي ما يمنحه جماله وفرادته. فإذا ما حولناه إلى خدمة استهلاكية سريعة تقدمها الآلات، نكون قد جردناه من روحه وأضعفنا عضلاتنا الاجتماعية التي تبني الثقة والولاء بين الناس.
إذن، ليس السؤال الجوهري: هل يمكن للذكاء الاصطناعي أن يقلد التعاطف؟ بل الأهم: هل سنسمح نحن لأنفسنا أن نتخلى عن هذه القيمة العميقة ونفوّضها إلى الآلة؟ إنني أؤمن أن القادة التنفيذيون في زمن الذكاء الاصطناعي مطالبون أكثر من أي وقت مضى بالتمسك بالإنسانية، ليس لأنها تميزنا عن الآلة فحسب، بل لأنها جوهر علاقتنا ببعضنا البعض، وهي ما يجعل المؤسسات فضاءً للحياة والعمل معًا، لا مجرد مصانع لإنتاج الأرقام.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *