استغربت كثيرًا من فهم طبقة لايستهان بها من طلاب الدراسات العليا، وبعض ” الأكاديميين ” من أن مناقشة رسالة الدكتوراه هي بمثابة احتفالية مصغرة لإتمام الطالب لتلك الدرجة العلمية- لا أقل ولا أكثر!
عدد منهم أفاد أن الحضور لجلسة الدفاع عن الأطروحة لا يتم إلا بعد أن تجتاز الرسالة عدة نقاط ” فحص ” تشمل المشرف ولجنة الإجازة، وبالتالي تصبح المناقشة تحصيل حاصل لعمل بات من المؤكد أنه جدير بالدرجة العلمية المستحقة!
البعض الآخر أيضا برر المظاهر الاحتفالية ” المبالغ فيها ” التي تصاحب المناقشة، التي تشمل أكاليل الورود وأطباق الشوكولاتات المتنوعة والفاخرة والهدايا الملفتة التي تحمل الامتنان للجنة المناقشة، وأن كل هذه المظاهر هي انعكاس لكرم الضيافة والاحتفاء بالحاضرين في موقف لايتكرر دومًا لاسيما وأنه محسوم سلفا بالنجاح والاجتياز!
وأمام كل هذا السيناريو الممتلئ بالإيجابية والسعادة والتفاؤل يصبح الحديث عن أي انتقاد له شكلا من أشكال السلبية والتعقيد ووضع الأمور في غير موضعها؛ بل قد يراه البعض محاولة لإجهاض فرحة سبقها سنوات من العمل الدؤوب والسهر الطويل الممتزج بلحظات من الارتفاع والهبوط وصولا للحظة طال انتظارها ووجب احتضانها بكل جميل!
الخلل بتقديري بدأ من المسمى ” مناقشة رسالة ” الذي يوحي في ظاهره أن الاجتماع ينحو منحى العمل التفاوضي أكثر منه ” امتحان” لما تقدم به طالب الدراسات العليا! وهذا الإيحاء من خلال المسمى رفع عن الطالب كثيرًا من حرج الممارسات الاحتفائية المبكرة، فليس من الممقوت أن يتفاوض الأقران ويتناقشون وهم في أجواء يعلمون سلفًا أن التسوية السعيدة هي المحصلة لذلك النقاش. لن يكون هنالك استعداد حقيقي وتوتر صحي وتبصر عميق يشبه ذلك القلق الذي يؤمن به الطالب المقبل على اختبار حقيقي thesis examination يعلم أن من ضمن تقييماته ” عدم الاجتياز”!
الخلل أيضا منوط بالجامعات التي لم تضع هذه الممارسات في إطار متزن؛ كون هذه الصور النمطية المتواضعة عن المناقشات مازالت تسري في أذهان كثير من الطلبة في ظل غياب بروتوكول واضح للمناقشة يشمل الالتزام بقواعد المناقشة وإلغاء الاحتفاليات المبالغ فيها، ونبذ المجاملات من قبل اللجنة المشكّلة لهذا الغرض ومنع الاستعراضات الأكاديمية لبعض المناقشين التي تكاد تعصر الطالب بكثرة الملاحظات والتنويهات؛ لتنهي تلك الجلسة بتقدير ممتاز مع التوصية بالطباعة والتداول بين الجامعات! ويحرم التواصل بين الطالب والمناقش بعد تعيينه مناقشًا؛ طلبًا للحيادية وحرصًا على أقصى درجات النزاهة العلمية!
الموضوع أكبر من سلبية وإيجابية! الأمر يتعلق بنظرة ثاقبة لبحث علمي سيبنى على تقييمه مسيرة علم ومستقبل عالم! الموضوع تأصيل وأصالة واحترام لدرجة علمية تمثل خطوة متقدمة في التخصصية! الموضوع خلق صورة جميلة للمفكر الناقد والباحث المتبصر والفيلسوف المنتظر الذي سيواصل السير بذلك الفرع من المعرفة لآفاق أعمق وأكمل! لا مكان للسلبية هنا إلا أن تكون ردة فعل هزيلة تجاه من يريد وضع الأمور في نصابها!
إذا كانت الدكتوراه عالية القدر فإن الممارسات التي تحيط بمنحها يجب أن تكون بذات القدر! فالدكتوراه كالسيد القدير الذي يلتزم الناس في حضرته بالأناقة والقيافة والتصرف اللائق ! في حضرة نقاشها لاصوت يجب أن يعلو على صوت الرزانة والإقناع والتأمل والتحليل والإبانة ومقارعة الحجة بأحسن منها ! وحين ينادي المنادي بأن الطالب قد حصل عليها فمرحى بالاحتفال وسنعانق جميعا ذلك الجمال!
linguist_abdul@yahoo.com