يقول ابن المقفع: “الدنيا تدرك بالجهل مثلما تدرك بالعقل”. بحكم تواجدي مبتعثًا في بريطانيا لاحظت انتشار الكثير من التضخمات الإعلامية لأعمال مبتعثين، قد لا يرتقي بعضها لأن تكتب في السيرة الذاتية للشخص، فكيف تكون حديث الإعلام؟!
نشاهد تلك المنجزات فيهولنا انتقاء الكلمات، التي هي أبعد ما تكون عن مدلولاتها. فهناك من يُخيل لك أن الحكومة البريطانية وجدت فيه ضالتها، وأخذت على عاتقها الاهتداء بثاقب فكره، لحل مشكلاتها في الإسكان والزراعة والمناخ، وتخاله من وحي ما يقول بأنه قد غطى أُفق الميتافيزيقيا بجناحيه، وبعضهم ممن تجده بالكاد قد أكمل دراسة الطب، يتوهم بأنه صار جالينيوس عصره وزمانه.
تتبعنا لهذه المنجزات الوهمية يقودنا إلى العامل المشترك بينها، وهو بحث مختلقيها لتوثيقها إعلاميا والتكسب من صداها وتفاعل الناس معها، ففي هذا البحر المتلاطم من الكلمات التسويقية الرنانة، تتضاءل الإنجازات الحقيقية ويخفت صوتها، وهذا أمر- بلا شك- يقود لنتائج عكسية ويسبب تأخير المنجزات الكبرى لانشغال الأفراد بتضخيم ما بين أيديهم وتعجل نتائجه قبل نضجه وإتقانه.
ولعله من عجائب الدنيا وعظمة خالقها، أن هدى البشرية لمنهج علمي قامت عليه الحضارة المعاصرة، ومن خلال هذا المنهج نستطيع قياس قيمة كل إضافة علمية بترتيب محكم يندر أن تكون البشرية عرفت لدقته مثيلاً. فالمجلات العلمية مصنفة والمؤتمرات كذلك، براءات الاختراع لها طرقها ومراكزها الواضحة، الشهادات والاعتمادات موثقة وجهاتها معروفة، وعلى هذا المعيار فقس. وبناء على وضوح وعدالة هذا المنهج، فإنه يتأكد لنا أن ممارسي هذا الدجل يعون أن الناس ؛ وخصوصا زملاءهم المبتعثين يعرفون ويقيمون كل ما يقولون، ولكن معضلتهم الرئيسة هي خداع النفس، حتى أصبحت نفوسهم لا تميز بين حق وباطل وبين حقيقة ووهم، وسيصل بهم الأمر لا محالة إلى افتقادهم لاحترام ذاتهم والثقة بها، وفوق هذا احترام الناس لهم، وهذه والله، قمة الخذلان.
إن تشجيع ودعم المميزين من أبناء الوطن أمر محمود ومطلوب بلا شك، وتسعى رؤية المملكة ٢٠٣٠ من خلال برنامج تنمية القدرات البشرية إلى الكثير من الدعم والمساندة. ومن ذلك أن يمتلك المواطن قدراتٍ تمكنه من المنافسة عالمياً. هذه الأهداف الطموحة ينبغي أن تدفع إلى تكاتف الجهود بين مؤسسات الإعلام والملحقيات الثقافية لتأصيل هذه القيم والأهداف في المبتعثين وتشجيعهم على التنافس البناء الذي يزيد من قدرات أبناء الوطن، ويرفع سقف الطموحات لتناسب طموحات قيادتنا الرشيدة، ومن خلال تسليط الجهود على المنجزات الحقيقية؛ نكون قد حافظنا على قيمة الدعم وعززنا من تطور البيئة الابتكارية في المجتمع، والعكس للأسف بالعكس.
ختاما، يظل حب الظهور آفة تدفع المرء لارتكاب سخافات مضحكة في تغليف الأعمال الاعتيادية برداء بطولي، وهم لا “أسمعوا أصما ولا أبهروا صحيحا”.
dokhyl@