كان العرب يتفاخرون بمن يحسن الإجارة ويقدم الأمان للمستجير، والتي تعدّ من السجايا التي يحرصون عليها ويتباهون بها. لأنها دلالة أكيدة على الشيم والقيم وبرهان صادق على النبل والأخلاق والكرم. وقد خلّد التاريخ شخصيات عرفت بأفعالها السامية بتوفير الحماية وتحقيق الأمان لمن استجار بهم. والشاعر الفرزدق الشهير كان واحداً ممن عُرف بتلك القيمة بإجارة كل من آوى إليه لدرجة قيل عنه بأنه يجير حتى بمن استجار بقبر أبيه!
والإجارة بمفهومها العام تحقيق قدرا من الأمن والطمأنينة لنفس المستجير الذي أقدم على ذلك بدافع الخوف وانعدام الأمن وتوقع القتل في أية لحظة من الغير. وكانت العرب تأنف ممن ينكث بعهد جاره وتعيب كثيراً من يختُل به ويعدّون ذلك وصمة لا يمحوها الزمن. لدرجة أنهم كانوا يجيرون حتى غير بني الإنسان!! ومما يروى عن أبي حنبل بن مرّ أنه وقع سرب من الجراد حول داره فجاءه قومه يهرعون إليه قال: ما شأنكم؟ قالوا نريد جارك، يقصدون الجراد! قال أما وقد جعلتموه جاري فوالله لا تصلون إليه حتى طار الجراد من عنده. وأعرف رجلاً حط طائر مهاجر على سطح منزله في أحد المرتفعات وكان من السهل صيده ومنع أبناءه من فعل ذلك قائلاً طالما شعر هذا الطائر بالأمان هنا فلا نقبل أن نفزعه.
وفي التاريخ الإسلامي تبرز إجارة أم هانئ بنت أبي طالب وقبول ذلك من الرسول عليه الصلاة والسلام، عندما فر إليها اثنان من بني مخزوم في عام فتح مكة وكاد أخوها علي بن أبي طالب ان يقتلهما فقفلت عليهما الباب وذهبت إلى الرسول عليه السلام وبعد أن سألها عن سبب مجيئها أخبرته بما فعلت فقال عليه السلام “أجرنا من أجرت يا أم هانئ وأمنّا من أمّنت”، وفي ذلك تحبيب لفعل الخير.
لكن كل تلك المواقف لا يمكن أن تقارن بالموقف العظيم الذي فعلته المرأة العربية الأصيلة والأم النبيلة نورة آل عسيلة الشهراني من بني واهب التي أجارت قاتل ولدها وفلذة كبدها بعد أن استجار بها لتضرب أروع الأمثال في حماية المستجير بها وتحقيق الأمان له ومنع أبنائها الآخرين من التعرّض له وأخيراً العفو والسماح له لوجه الله تعالى بعد صدور حكم القصاص شرعاً، لتقدم أجمل صورة من صور التسامح المشرقة والعفو عند المقدرة .. التي يندر فعلها إلا ممن أعطاهم الله قوة الصبر وقيمة الحكمة والبصيرة. وهو موقف سيسطره التاريخ لهذه المرأة الشهرانية العظيمة وفقها الله وجزاها خير الجزاء. والتي زادت على جمال الموقف بموقف مشرف منها ومن أبنائها الكرام أهل الرجاحة من آل راجح بحرصهم على عدم انتقال أهله من مقر سكنهم -بعد أن همّوا بالرحيل- وبقائهم بجوارهم تجاوزاً لكل ما حصل احتسابا لنيل رضا الرب الكريم.
فلهذه الأم العظيمة والأسرة الكريمة الدعاء الصادق من الأعماق، وهم جديرون فعلاً بالتقدير والتكريم من الجميع.