منذ بدايتي في الكتابة الصحفية واحترافها ، تعهدت نفسي بأن لا أخوض في أمور غير الإنسان وإنسانيته، وأن يكون جُلّ اهتمامي ما يعانيه هذا الإنسان من خلجات نفس وضغوط حياة، وقررت أن أترك لأصحاب القضايا والرأي العام من ذوي الخبرة الموضوعات الشائكة والعميقة، إلا أنني وبطابع المسؤولية أحياناً أحيد عن نهجي عندما تثيرني بعض الأمور التي تبعث في النفس الضيق.
سأروي لكم قصة حدثت للعديد من أهالي جدة الكرام ممن يحبون التغير، قبل ما يقارب الإثني عشر عاماً عندما قررنا أنا وأسرتي الانتقال بالسكن إلى منطقة جديدة أقل ضوضاء وأكثر نقاء ،ووقع اختيارنا حينها على منطقة أبحر الشمالية في أقصى شمال غرب مدينة جدة، وعلى الرغم من أننا لم نكن أصحاب هذه الفكرة وحدنا ، إلا أن المنطقة في بداية انتقالنا كانت تقريباً تخلو من الخدمات وقليلة السكان، ربما هذا الأمر وافق أهواء الغالبية من أفراد أسرتي إلا أنه لم يتوافق مع البعض منهم وعلى رأسهم أمي الغالية فقد كان سبباً في ابتعادها عن أحبابها وأصدقائها نتيجة لعناء الوصول إليهم بسبب بعد المسافة، لم يستمر هذا الرفض من جانب ست الحبايب لأن العديد من الأهل والأصدقاء انتقل للسكن في منطقة أبحر الشمالية وبذلك انخفضت وطأة الرفض واستقرت الأمور إلى حد ما.
على الرغم من المنغِّصات التي كانت تصاحب عدم وجود بعض الخدمات في الفترة الماضية قبل اكتمالها، بالإضافة إلى ما يتراكم من أضرار نتيجة لهطول المطر، إلا أن النظرة لحي أبحر الشمالية بقيت جيدة إلى أن بوغتنا بكم هائل من القطع الأسمنتية التي تسمى بالمصطلح الدارج ( بترة وفي جمعها بتر) وقد غزت الحي وأصبح لا يخلو شارع رئيسي أو فرعي منها وكأنها جزء من مكونات الحي، تقبلنا وجودها في البداية كضيف سيبقى إلى أن تنتهي فترة ضيافته ولم نتوقع أن هذا الضيف لا يفهم آداب الضيافة والتي من أهمها الاستئذان قبل الحضور والتخفيف من فترة البقاء، بل أنها استوطنت الحي وبقيت ولازالت في مكانها إلى هذه اللحظة، وحتى لا أكون مجحفة في حقها فقد كان وجودها في البداية مبرراً حيث أن البعض منها ساهم في وضع قيود للمناطق المتضررة من أمطار العام الماضي، والغريب أنها لا زالت موجودة (أقصد أضرار العام الماضي مع حواجزها الأسمنتية) لم يتم البتّ فيها أو معالجتها وقد شارفنا على استقبال موسم أمطار جديدة -ما علينا- أما البعض الآخر تمثل دوره في تحديد مناطق شق الطريق لتوصيل المياه العذبة لكل بيت في المنطقة وهو دور عظيم، نستطيع نحن أهالي الحي أن نتقبل فكرة الصبر عليه لفترة من الزمن، إلا أننا نتحفّظ على بقائه كجزء من مكوِّنات حيّنا الذي تحول بقدرة قادر إلى وادي أبحر الشمالية حيث تتفرع منه الأنهار والمناطق الغنية ببقايا ملح البحر.
أعيدوا لنا حيّنا الجميل الذي اخترناه ملاذاً للهدوء واستنشاق هواء نظيف.
eman_bajunaid @