اليوم كان يوم جمعة وأنا في رحاب الحرم النبوي الشريف بالمدينة المنورة لأداء صلاة الجمعة.
كنت كعادتي أقرأ ما تيسر من القرآن الكريم قبل الخُطبة ،وأثناء القراءة كنت كلما آتي على موضع للسجود ، أسجد والمصحف في يدي!
كان يجلس إلى جانبي رجل وقور كبير في السن، فما كان منه إلا أن أمسك بيدي وقال لي بصوت خافت لا يسمعه أحد سوانا: يا إبني ممكن أعطيك نصيحة ولكن سامحني.
قلت له :تفضل جزاك الله خيراً.فإذا به يستسمحني للمرة الثانية في إسداء النصيحة، فقلت: لا بأس لتنصح بما تريد. ولكنه قبل أن يتكلم ، اعتذر للمرة الثالثة فزاد ذلك في استغرابي ، وذلك قبل أن ينصحني بعدم وضع المصحف على الأرض عند السجود، كما علّمني طريقة أخرى لحمل المصحف دون أن يلامس الأرض في وضعية السجود.
شكرته على نصيحته لي ،وبادرته بسؤال مباشر عن سبب تكراره الإعتذار لي قبل أن ينصحني بنصيحته الغالية تلك.
قال لي: يا ولدي لا أحد في هذا الزمان يريد أن يسمع أي نصيحة أو أن يُوجه إليه أي انتقاد، ولهذا أصبح يغضّ الطرف عن أي سلوك سلبي خوفاً من ردة فعل صاحبه، خاصةً إذا كان من الجيل الجديد.
أذكر أنني قد وقعت ذات مرة في حرج عندما حاولت أن أنصح أحد الأشخاص حول مسألة معينة لها علاقة بالرياضة واللياقة وذلك من باب المحبة له وبحكم كوني خبيراً في هذا المجال، فإذا به يقول وبكل بساطة: يا أخي أنا ما طلبت رأيك!
أنا متأكد من أن بعضنا قد مرّ بمثل هذه المواقف ولكن نظراً لمثل ردة الفعل السلبية هذه ،يحجم كثيرون عن إسداء أي نصيحة حتى وإن كانوا على علم بأن سكوتهم فيه ضرر لهم.
الدين النصيحة والحكمة ضالة المؤمن وقد ورد في في القرآن الكريم آيات النُصح في عدة مواضع:
قال الله عزّ وجلّ في محكم التنزيل :(الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه).
إذاً الكلمة الطيبة، أوالنصيحة التي تأتي من باب المحبة ،لا ينبغي لأي إنسان أن يرفضها حتى وإن لم يقتنع بها ذلك أن الردّ الحسن هو المطلوب.
وجاء في حديث ابنِ أَوْسٍ الدَّارِيِّ، أَنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال :الدين النصيحة
قلنا: لمن يا رسول الله؟ قال: لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم.
هذا الحديث يدل على عظم النصيحة فهي الدين، وهي الإخلاص في الشيء والصدق فيه ،
ولقد جاء في الحديث أن حق المسلم على المسلم ستٌ ومنها :(واذا استنصحك فانصح له)
فالنَّاصح غرضُه من النصيحة أن يجتنب أخوه المسلم العيب، بينما غرض الفاضح أن يذمّ أخاه ويعيّره بعيبه.
إن لمن المؤسف له حقاً في بعض الحالات ، ألّا يتقبل الناس النصيحة وهم على خطأ فتأخذهم العزة بالإثم. والأكثر إيلاماً هو عندما يكون الردّ قاسياً على الناصح، علماً بأن النصيحة هي الإخلاص في الشيء أي لا غش فيه.
يقال في لغة العرب: ذَهَبٌ ناصح وعمل ناصح، أي ليس فيهما غش ،وهكذا يجب أن يكون المؤمن إنساناً
ناصحاً .
ولمّا كان النصح من منظور الإمام الشافعي نوعاً من التوبيخ ،لذا نجده يقول : تعمّدني بنصحك في انفرادي وجنّبني النصيحة في الجماعة.
ولتقديم النصيحة شروط ،ولها آداب، كأن تكون مختصرة، وألا تكون أمام الناس,
وإلى ذلك ينصح ابن حزم:إذا نصحتَ فانْصَح سِرًّا لا جهرًا، أو بتَعريضٍ لا بتصريحٍ إضافةً للرفق واللين في الكلام وما إلى ذلك.
وأحد أهم شروط النصيحة هو تحمل الألم الذي يأتي من ردة الفعل السلبية ، واضعين في عين الاعتبار أن هناك من يتقبّل النصيحة وهناك من يرفضها بوقاحة.
قد أختلف قليلاً مع ذلك الرجل الوقور، وأقول إن جيلنا الحالي جيل منفتح ويتقبّل النصيحة،وأنه لابدّ من المبادرة لفعل الخير وتقديم النُصح في المواضع التي يجب فيها النُصح بعيداً عن التدخل في شؤون الآخرين، ذلك أن هناك فرقاً كبيراً بين تقديم النُصح وبين التدخل في شؤون الآخرين.
jebadr@