البلاد ـ جدة
تمتلك المملكة موروثاً ثقافياً وحضارياً عالمياً، إذ توجد بها السعودية عشرة مواقع أُدرِجت ضمن قائمة مواقع التراث العالمي بعد أن أقرتها منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة (اليونسكو)، من بينها جدة التاريخية، التي وجّه صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن سلمان بن عبدالعزيز آل سعود، ولي العهد رئيس مجلس الوزراء بإحيائها عقب إطلاق سموه مشروع “إعادة إحياء جدة التاريخية” ضمن برنامج تطوير جدة التاريخية الذي يهدف إلى تطوير المجال المعيشي في المنطقة لتكون مركزاً جاذباً للأعمال وللمشاريع الثقافية، ومقصداً رئيساً لروّاد الأعمال الطموحين.
وشمل التوجيه تجّديد البيوت التاريخية والحفاظ عليها من خلال تطوير 600 بيت تتراوح أعمارها من 100 – 400 سنة وأقدم يناء موجود في المنطقة منارة مسجد الشافعي عمرها 780 سنة، ويأتي في المرحلة الأولى تطوير أكثر من 50 بيتاً جارٍ العمل على ترميميها وإعادتها إلى ما كانت عليه من أجل الاستفادة منها لتكون مقرات لمشاريع تنموية وفندقية ومقرات لوزارة الثقافة ومتاحف ومبان تعلمية مثل المعهد الملكي للفنون التقليدية، في حين تضم المرحلة الأخيرة للمشروع حوالى 10 بيوت أنجز العمل فيها العام الماضي، حيث روعيّ في عملية الترميم التركيز على طبيعة المواد المستخدمة في الترميم على أن تكون بذات الماد التي بُنيت منها البيوت التاريخية المتمثلة في الحجر المنقبي والحجر المرجاني والأخشاب للأبواب والأسقف والجبس للحليات داخل وخارج البيوت والخلطة التي تسمي “النورة”، فضلاً عن الرجوع إلى المصورات التاريخية في بناء البيوت المهدمة من خلال المصادر التي تناولت هذه البيوت، وكذلك خلال عملية الترميم عبر الكشف عن القواعد التي تُبيّن أماكن الشبابيك والمداخل.
وتزامن مع بدء انطلاق مشروع جدة التاريخية، البدء كذلك في مشروع توثيق البيوت الموجودة في المنطقة مثل بيت “ذاكر”، الذي سقط قبل عامين وتم إعادته إلى ما كان علية خلال سنة من بدء البناء، وكذلك المشاريع الرئيسة المرتبطة بالمخطط العام الذي في طور اعتماده ومن خلاله تحديد آلية الاستفادة من كل جزء من المنطقة التاريخية والمتضمن مناطق تجارية بحكم مواقعها على شوارع تجارية، بجانب المناطق المشاريع الثقافية والفنية وورش العمل الحرفية التي تحددها وزارة الثقافة بحسب المعطيات الموجودة على أرض الواقع.
وقبل إعلانها ميناءً بحرياً لمكة المكرمة عام 647م، بُنيت منطقة البلد “جدة التاريخية” على أرض ساحلية جذابة، جعلتها مركزاً بشرياً يضم العديد من الثقافات عبر السنين. وتكشف لك هذه المنطقة الستار عن تراث إنساني، قاومت أسواره العوامل التاريخية بثمانية بوابات عُرفت بقصصها التاريخية، إلى جانب أكثر من 10 بيوت أثرية يُشاد بتصاميمها المميزة وأسماء أسرها العريقة، هذا هو المكان الذي ستحصل فيه على أفضل صور دافئة.
واكتشف المنطقة التي اختيرت لتكون ضمن قائمة التراث العالمي في منظمة اليونسكو، بعد أن تحولت المنازل الأثرية فيها شيئاً فشيئاً، باستخدام أحدث الوسائل والخبرات، إلى معارض فنية ومقاه مختصة، حيثما رفع الشخص رأسه في البلد سيجد الرواشين الخشبية تطل كشاهد معماري أصيل، يتوّج الحياة العصرية التي تعبر تحته.
ولا يقتصر سحر “جدة التاريخية” على التراث المحيط، فهي تتميز بموقع يبعد عشرين دقيقة عن أفضل تجارب التسوق والخيارات العالمية للمطاعم، وتبعد عشرين دقيقة أخرى عن أكبر سباقات السيارات في العالم وأكثرها أهمية، سباق جائزة السعودية الكبرى stc للفورمولا 1.
ويلاحظ الداخل لمنطقة جدة التاريخية أبواباً عدة، فقد أحاط حارات جدة قديماً سور بثمانية أبواب، كانت تغلق قبيل الليل لحمايتهم وتأمين أسواقهم، ولكل جهة تقريباً باب، أشهرها من الشرق: “باب جديد”، حيث بُني هذا الباب بداية الأربعينات الميلادية في العهد السعودي ويعتبر آخر الأبواب لهذا السور، يليه في الأهمية “باب مكة” من الجهة الشرقية المقابلة لسوق البدو، ويعد محصناً لأسواقهم وحلقات بيعهم ومعبراً أيضاً، ثم “باب شريف” من المنطقة الجنوبية.
وضمت منطقة جدة التاريخية أعرق الأسواق الشعبية عبر الأزمنة، وتمثل وجهة مفضلة لمحبي التراث والقطع التذكارية، وللباحثين عن أصحاب الحِرف والصنعة والعروض التي لا يمكن تفويتها، إذ يستقبلك في منطقة البلد “سوق علوي”، الممتد على شارع قابل ببهجة أصيلة ما بين الملبوسات التراثية والثياب الشرقية والحجازية والأحجار الكريمة المعروضة داخل هذه الأسواق، حتى يفضي بك إلى نهايته على “سوق البدو” المتقد حيويةٍ دوماً، هذا المكان الذي انطلق منه معظم التجار البارزين في المشهد المحلي اليوم. تنزهك في ساحاته الثرية ثقافياً مع لفتات الودّ والبساطة من أهله تجربة لا يماثلها شيء في جدة. وفي انتقالك بالمنطقة نفسها إلى “برحة الشجرة”، تمتد أسواق متفردة بـ”الخاسكية” يوزع أهل الصنعة به منتجات أصلية وقطع ثمينة مُعدة يدويًا، كما تحتفظ مراكز بيع الجملة المتفرقة داخله بكل ما يمكن لك السؤال عنه. “سوق الندى” خيار آخر ممتع، ممتد في منطقة جدة التاريخية بين المباني القديمة وأكشاك الوجبات الخفيفة، يحوي خيارات شاملة وعديدة في صبغة شعبية محلية تجعل زيارتها تجربة مثيرة، وتحيي في رأسك العديد من المشاريع الصغيرة.