الرياضة

سقراط.. فيلسوف وأسطورة السامبا البرازيلية التي لن تتكرر

محمود العوضي- جدة
صنف الكثيرون من عشاق الساحرة المستديرة حول العالم، اللاعب البرازيلي سقراط دي أوليفيرا، بأنه استثنائي مختلف في أزمنة المتشابهين، يعزف منفرداً وعلى ألحانه تُبنى أمجاد أندية، وبالألحان ذاتها تُداعب أهدافه شباك الخصوم تارةً وبتمريرات تُرفع لها قبعات الخصوم قبل المحبين تارةً أخرى.
سُقراط ارتبط ذكره في سابقٍ قد ولّى بالفلسفة ومفكريها، وبالمعاني ذاتها ترجم سقراط البرازيل وفيلسوف كرتها أقوال الفلاسفة إلى جُمل كروية خرّ أمامها خصوم على أرضية الملاعب، وناظرت أعين آخرين سحر ما يرسم الفيلسوف ليكون المشهد النهائي لوحة فنية رُسمت بأقدام الأخير، وتلألأت على جنباتها مهارات ابن بوابة الأمازون بيليم أيقونة الشمال.
سقراط دي أوليفيرا، اختلف عن رفاقه في تحصيله العلمي وشابههم في عشق كرة القدم، في 1954م أبصر الحكيم كما أحب عاشقيه تسميته النور في بلاد تجمع من التناقضات الشيء الكثير، ليشق طريقه في مسيرة العلم التي تفوق فيها ليسير في خطين متوازيين بين نجاحات علمية وتميز كروي، الذي لامست فيه أقدامه أولى خطوات الاحتراف بسن 25 ربيعاً، وحينها ارتداء ألوان كورنثيانز ليبدأ عزف ألحانه بسمفونيات أطربت كل من شاهدها واستمر صداها يروي حكايات الفيلسوف في زمن عجت فيه السماء العالمية بالنجوم.

   
التألق في مونديال 1982
تألق الفيلسوف الطبيب في مونديال 1982 بإسبانيا، وحينها شكّل مع أيقونات السيلساو منتخباً يُمتع أعين الخصوم قبل المحبين، ورغم الخروج خال الوفاض في هذه النسخة إلاّ أن سقراطيس ورفاقه كانوا من أفضل النسخ البرازيلية التي لامست أقدامهم أرضية المونديال العالمي، أو هكذا صُنف برازيل 82 بأعين من شاهدهم. الدكتور، لاعب كرة القدم، الثائر مراحل حياة سقراط فبعد مشاركته في مونديال المكسيك 1986، التي كتب فيها آخر حروف مشاركاته المونديالية ليظل أحد الأساطير الذين لم تلامس أناملهم كأس العالم. استهوته بلاده وعشق هوائها فبمجرد ما ارتدى ألوان نادي فيورنتينا في كالتشيو إيطاليا سرعان ما نزع ثوب الاحتراف خارج الحدود وعاد إلى موطنه من بوابة فلامنغو.


سقراط.. خارج الملعب
أفكاره الثائرة وهوسه بالديمقراطية كان شغله الشاغل والثورة على الحكم العسكري آنذاك، وقد ساعدت شهرته في تمهيد الطريق إلى نسج خيوط أفكاره وعلى الطريق ذاته كانت كلماته ذات صدى ينتقل من مكانه ليبلغ آخر ردهات شوارع البرازيل. رجل امتهن الطب أكاديميًا، وداعب كرة القدم كهاوٍ فجعلت منه معشوقاً في قلوب المحبين، وبين هاتين المرحلتين كان الكفاح يشتعل في قلب الفيلسوف لتكون 2011م آخر الصفحات التي بها طويت حياة سقراط كإنسان ويترك وراءه إرثاً يناهز النجوم في إضائتها وذهب لا يصدأ مع مرور السنين.
رحل سقراط وترك تاريخاً عظيماً في الساحرة المستديرة ونجاحات فردية دخل بها قلوب العاشقين قبل المحبين، هكذا نسج خيوط الإبداع وعلى الخيوط ذاتها نقش التميز بلمسات تمتع أي كان من يشاهدها، وواصل نثر سحره بإيمانه بقضية الكفاح والوقوف بجانب الطبقة الكادحة.
اتخذ سقراط من أسلوب لاعب التنس السويدي بيورن بورغ نمطًا لمظهره في وضع شريط على رأسه وإطلاق لحيته، وأصبح بذلك رمزًا لجيل من مؤيدي كرة القدم.


غير نمطي
سقراط لم يكن لاعبا نمطيًا. إذ كانت له آراء فلسفية قوية مثل سميه الفيلسوف اليوناني القديم، ولم يكن يعبأ بأي شيء في سبيل التعبير عن رأيه صراحة، وأصبح معروفا بآرائه السياسية وأنشطته مثل شهرته في مجال كرة القدم.
وقد تجمع الأمران؛ كرة القدم والسياسة في الحركة الديمقراطية في أواسط الثمانينيات، قبيل انتهاء فترة الديكتاتورية العسكرية في البرازيل، وأصبح نادي ساوبولو – وهو النادي الوحيد في العالم الذي كانت تدار الأمور فيه بطريقة ديمقراطية- رمزًا لرفض النظام العسكري.
وكان معظم لاعبي كرة القدم في سنه يعتبرون أسلافهم من المشاهير مثل بيليه وغارنتشا نماذج بطولية لهم، لكن سقراط لم يكن كذلك.
فقد كان أبطاله رجال مثل فيدل كاسترو، وتشي غيفارا، ممن تزعموا الثورة الكوبية في الخمسينيات، ومطرب فرقة البيتلز المناوئ للحرب، جون لينين.
وفي حديث مع بي بي سي في 2010م، قال سقراط: “لقد منحني الناس سلطة كلاعب كرة قدم مشهور. وإن لم يكن لدي الناس القدرة على قول ما يريدون، فإنه يمكنني الإفصاح عما يريدون نيابة عنهم. وإن لم أعبر عن آراء الناس ما استمع أحد إلى آرائي”.


“إن أعظم شيء منحتني إياه كرة القدم هو الفرصة لمعرفة بني البشر”.
وكان سقراط في الملعب يمثل نبض الجانب البرازيلي في بواكير الثمانينيات، ولكنه شاهد بألم حلمه لأن يصبح رابع قائد فريق برازيلي يحمل كأس العالم عام 1982م يتبخر، بعد هزيمة فريقه على يد إيطاليا بالرغم من الهدف الجميل الذي أحرزه سقراط.
ولم تتحسن الأحوال بالنسبة لسقراط بعد أربع سنوات أخرى، إذ إنه فشل في إحراز هدف من ضربة جزاء في ربع النهائي وانهزم الفريق أمام فرنسا. وقد اكتسب سقراط بالرغم من هذا شعبية كبيرة بين مؤيديه في بلاده وخارجها.
وقال سقراط قبل وفاته مازحًا: “عندما سميت ابني فيدل، قالت لي أمي: إن هذا اسم قوي جدًا بالنسبة لطفل. فقلت لها: انظري ماذا فعلت بي عندما سميتني سقراط”. ولاشك أن سقراط قد صنع لنفسه اسمًا لن ينسى.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *