اجتماعية مقالات الكتاب

المستقبل للعلوم الإنسانية «3»

لا شك أننا نعيش الآن في ذروة العصر التقني أو الرقمي منذ لحظات القلق والتوجّس التي عاشها العالم في مطلع عام 2000 وهو ما اصطُلح على تسميته مشكلة Y2K وهو الخوف من خلل في الأجهرة الحاسوبية عند التحوّل من 1999 إلى 2000 لأن الحاسب سيقرأ تغير التاريخ من 99 إلى 00 على أنه 1900 بدلاً من 2000. ورغم أن الأضرار كانت ثانوية إلا إنه تم رصد بعض الأخطاء الموثقة مثل ذلك الخبر الذي أوردته BBC عندما دق جرس إنذار الخطر في محطة للطاقة النووية في اليابان بعد دقيقتين من منتصف الليل.

وقد حدث بالفعل أزمة سيبرانية مقلقة في مطلع عام 2023 عندما تعطّل نظام الكومبيوتر في الولايات المتحدة وتأخّرت وتأجّلت آلاف الرحلات الجوية في كل أنحاء أمريكا، بحسب الخبر الذي أوردته جريدة الشرق الأوسط. وليس خبر انهيار بنك سيليكون فالي الأمريكي، الذي يقدم خدمات مصرفية لشركات التقنية وبورصات العملات الرقمية المشفّرة، ببعيد. لكن مثل هذه الأخبار الهامشية، أو هكذا يبدو، لا تؤثّر على هذا الهوس التقني الذي يجتاح العالم من غربه حيث أمريكا وشركاتها التقنية العملاقة إلى شرقه حيث الصين واليابان وكوريا الجنوبية فاستمر بنفس القوة نحو اتجاه الله وحده يعلم مداه ونهايته.

انعكس هذا الهوس نحو التقدم، أياً كان اتجاه هذا التقدّم، على سوق العمل الذي فرض على الجامعات في أمريكا، التي أصبحت مجرد شركات تجارية، تقديم تخصصات اصطلح على تسميتها بالإنجليزية STEM أي العلوم والتقنية والهندسة والرياضيات وتهميش العلوم الإنسانية، فانتشرت التقنية وتغوّلت الشركات واحتل الاقتصاد المرتبة العليا فسيطر على كل شيء بما فيها الحرّيات إذ وصلت قوة هذه الشركات التقنية العملاقة إلى مستوى سلب الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب، وهو من المفترض أن يكون أعلى سلطة في البلاد، من حرية التعبير وألغوا جميع حساباته في شبكات التواصل.

لا شك أن الإحصائيات تشير إلى أن التخصصات الإنسانية في تراجع تدريجي مستمر منذ بداية القرن لكن القضية هنا ليست معرفة مستقبل هذه العلوم في الخمسين سنة القادمة وإنما أي نوع من المستقبل نريد هذا العالم أن يكون. ليست القضية هنا أنه لا حاجة لنا أن نقرأ قصيدة أو نحفظ نصاً لأن الهاتف الذكي يستطيع أن يقرأها لنا في ضغطة زر، بل القضية هي كيف سيعيش هذا الإنسان الذي لا يعرف قصيدة أو لا يحفظ نصاً يساعده على إدراك معنى وجوده واتخاذ القرار المناسب وتذوّق الجمال المحيط به والتعامل مع الآخرين أخلاقياً بطريقة تتجاوز وتسمو فوق هذه الظلمات المادية التي أحاط نفسه بها؟
ألا يمكن التنبؤ بأن هذا الاتجاه المحموم نحو التقدم له تداعيات الله أعلم بها وأن الحاجة ستكون ماسة للعودة من جديد للعلوم الإنسانية؟ هذا سؤال للتأمل فقط، ليس إلا.

khaledalawadh@

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *