اجتماعية مقالات الكتاب

المستقبل للعلوم الإنسانية «2»

تحدثنا عرضاً في الأسبوع الماضي في هذا المكان عن روبرت أوبنهايمر، عالم الفيزياء النظرية الأمريكي الذي كان يقود الفريق السرّي الذي أنتج وجرّب واستخدم أول قنبلة نووية. ستكون قصة هذا الرجل الغامض والمثير للجدل عنوان فيلم سينمائي يحمل نفس الاسم بميزانية ضخمة وصلت إلى 100 مليون دولار حيث سيتم طرحه في صالات السينما في 20 يوليو القادم.

لا نعرف كيف سيروي المخرج كريستوفر نولان قصة هذا الرجل المتقلّب المزاج وصعب الفهم الذي ينحدر من عائلة يهودية علمانية خاصة إذا عرفنا أنه خارج سياقه العلمي في الجامعة ارتبط بعلاقات عاطفية مع ثلاث نساء في الوقت نفسه أولاهما عضوة في الحزب الشيوعي الأمريكي بالإضافة إلى زوجته التي كانت هي الأخرى ترتبط بنفس الحزب الأمر الذي أدّى إلى عواقب وخيمة في نهاية حياته حيث وجّهت له تهمة الجاسوسية لصالح الاتحاد السوفياتي وخضع لتحقيقات وتم طرده من الخدمة. المرأة الثالثة التي ارتبط معها عاطفيا كانت زوجة صديقه المقرّب منه.

المهم لنا نحن في هذه القصة الدراماتيكية المعروفة عن أوبنهايمر، وليس الفيلم الذي لا نعرف عنه شيئاً، أنه بعد أن شاهد من بعيد تلك السحابة الضخمة والصوت المهول لذلك الانفجار شعر بفداحة العمل الذي تلطّخت يداه به إذ أن انشغاله بالمعادلات الفيزيائية والرياضية لم يسعفه على إدراك هذا أول الأمر. كان همه الوحيد أن يسبق الألمان والروس. حلّ الدمار المروّع للبشر والبيئة في المدينتين اليابانيتين فحاول أن يكفّر عن ذنوبه ويطلب من الرئيس الأمريكي ترومان العمل على عدم المضي في هذا الاتجاه لكن ترومان طلب من موظفيه عدم رؤية هذا “الوغد” مرة أخرى.

تبدّت الحاجة إلى العلوم الإنسانية عند أوبنهايمر نفسه بعد كل هذا الدمار الذي أحدثه عندما أصرّ أثناء رئاسته لمعهد الدراسة المتقدمة الشهير في برينستون على انضمام أعضاء ينتمون إلى مجالات وتخصصات مختلفة وليس فقط المتخصصين في العلوم الطبيعية ولعل أشهر هؤلاء الذين ينتمون للعلوم الإنسانية الشاعر الذائع الصيت ت.س.إليوت وعالم التاريخ جورج كينان. اعترض بشدّة بعض المتخصصين في الرياضيات على هذه الخطوة مطالبين أن يكون المعهد خاصاً بالبحث العلمي الطبيعي كما هو معروف عنه.
العلوم الإنسانية لا تقدّم فقط حلولاً لأولئك المشتغلين في العلوم الطبيعية والغارقين في معادلاتهم الحاسوبية من أجل اللحاق بركب التقدّم اللانهائي، وإنما هي أيضاً تساعد الناس جميعاً على صناعة المعنى الذي يحتاجه الإنسان في كل محاولاته نحو التقدّم. تصبح الحياة، بدون هذا المعنى، جافة وربما تكون نهايتها أشبه ما تكون بالنهايات الشنيعة للشخصيات التي عاشت بالقرب من أوبنهايمر مثل ابنه الذي عاش منعزلاً بعد أن وبّخه أبوه بسبب فشله الحصول على معدل عال يضمن له الدراسة في برينستون أو ابنته التي انتحرت أو صديقته التي انتحرت هي الأخرى، أو صديقه الذي يقال إنه مات كمداً مفطور القلب بعد أن اكتشف أمر علاقة أوبنهايمر بزوجته.

khaledalawadh@

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *