اجتماعية مقالات الكتاب

الاستدامة وأبعادها .. ضابطة أم كابحة للتنمية؟

انتصرت عالمة الأحياء البحرية (Rachel Carson) راشيل كارسون في معركتها لحماية البيئة بعد نشر كتابها (Silent Spring) الربيع الصامت في عام 1962، الذي حذرت فيه المجتمع من مخاطر التلوث البيئي، وأعلنت معارضتها لاستخدام المبيدات الحشرية «دي دي تي» لضررها البالغ بالطبيعة. تنامى بعدها وعي المجتمع وإدراكه لهذه المعضلة، وأصبح من المسلمات اعتبار أن أي تطور لا يتضمن الحفاظ على التوازن البيئي (الاستدامة) سيكون له آثاراً كارثية على المدى البعيد.

ويشير واقع الحال اليوم إلى العواقب الكارثية التي تعاني منها البشرية بسيرها على نهج التطور الخطي غير المنضبط، المبني على الاعتقاد الخاطئ بإمكانية النمو اللامحدود، والمتمثل في ظواهر: الاحتباس الحراري، والخسارة الهائلة للتنوع البيولوجي، والتصحر وغيرها.

سارعت الأمم المتحدة في تبني منهج التنمية المستدامة، وأعلنت لجنة بريندتلاند التابعة لها في عام 1987 م تعريفًا للاستدامة بأنها « تلبية حاجات الحاضر دون المساس بقدرة الأجيال القادمة على تلبية حاجاتها «.

بزغ مفهوم الاستدامة بمضمون يختص ببعد البيئة أو علم الأحياء الذي يتعامل مع علاقات الكائنات الحية ببعضها البعض ومحيطها المادي، تمثل ذلك في تكوين المثلث الذهبي للاستدامة المشتمل على: البعد البيئي، والاجتماعي والاقتصادي، الذي بموجبه أصبح من الضرورة بمكان تحقيق توازن مستمر بين هذه الأبعاد رغم تغيراتها التي لا تنقطع. وأضحت الفكرة المركزية للتنمية المستدامة تدور حول تحقيق نوع من التنمية يزدهر عبرها الاقتصاد ملبياً الاحتياجات الاجتماعية في إطار العدالة، وفي الوقت نفسه، لا تتأثر البيئة بشكل لا رجعة فيه، مما يحافظ على تراتبية النُظم البيئية. وكذلك الإنصاف الضروري للحد من النزاعات الاجتماعية.

بعيدًا عن التسلسلات الهرمية لأبعاد الاستدامة، إلا أن الحقيقة هي أن المحافظة على البيئة هي الدافع الرئيس، لأن الوعي بالآثار السلبية على بيئة التنمية هو الذي عزز فكرة التنمية المستدامة.

كان وما زال البعد الاقتصادي جزءاً رئيساً في أي اقتراح للتنمية المستدامة، فالتطور الذي يحمي البيئة، ولكنه يتسبب في اختلالات اقتصادية خطيرة؛ كانخفاض الاستثمار والبطالة والركود الاقتصادي المؤدي لخسائر كبيرة ليس مقبولًا. فإن المهم اقتصاديًا هو توليد الأرباح، وبالتالي تحقيق التنمية الاقتصادية التي تؤثر على البيئة بأقل قدر ممكن.

وفي البعد الاجتماعي يظهر لنا سلبية التنمية العاكسة لتطور اقتصادي وتأثير بيئي منخفض مع اختلالات اجتماعية، تبرز في جنوح المجتمعات المهمشة عن العوائد الاقتصادية في الإفراط في إهدار الموارد الطبيعية متجاوزين الخطوط الحمراء للمحميات، الناتج عن فقر في فهم واستيعاب دور الفرد المسؤول في التنمية المستدامة مع إحساسه بالظلم. فلا بد للطموح الهادف لتحقيق تنمية مستدامة أن يأخذ بعين الاعتبار التطور المجتمعي وتعزيز فكرة التنمية المستدامة كأسلوب حياة للمجتمعات.

مع استمرار تطور الفكر في مصطلح الاستدامة الملازمة للتنمية، أثيرت الحاجة إلى النظر في أبعاد أخرى، سنستعرضها معاً بعون الله في مقال آخر.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *