متابعات

الاقتصادات الدائرية…الفرص والإمكانات المخبأة للمملكة ودول الخليج

بقلم شيلي ترينش -مدير مفوّض وشريك في بوسطن كونسلتينج جروب

تمثل السنوات القادمة فترة بالغة الأهمية بالنسبة لدول مجلس التعاون الخليجي لضمان مستقبل آمن ومستدام. ويمثل الاقتصاد الدائري فرصة استثنائية للمنطقة، التي بدأت مؤخرًا مسيرتها نحو اعتماد وتبني ممارسات الاقتصادات الدائرية والتي تشكل فعليًا نظمًا صناعية ترميمية تستبدل مفهوم انتهاء الصلاحية بممارسات أكثر كفاءة في استخدام الموارد مثل اعتماد نهج الطاقة المتجددة والحد من النفايات وتطوير المنتجات القابلة للتدوير ونماذج الأعمال المتجددة. ومن الممكن أن يسهم تحديد أولويات التطوير الدائري إلى دفع النمو الاقتصادي وتعزيز الرفاهية الاجتماعية على نحو شامل. ومع ذلك، يجب أولاً التغلب على التحديات الحتمية من أجل تحقيق هذه المزايا، حيث يجب تطوير الخيارات الإستراتيجية لإطلاق إمكانات الاقتصاد الدائري بالكامل.

التوقعات على مستوى المنطقة

تَعتَبر دول مجلس التعاون الخليجي مفاهيم الصحة البيئية والبنية التحتية الخضراء من الأولويات الأساسية؛ مما دفع حكومات المنطقة لتبني المفهوم الدائري كعامل تمكين رئيسي للطموحات المستدامة طويلة الأجل. فعلى سبيل المثال، يمكن تعزيز المرونة الاقتصادية والقدرة التنافسية من خلال الاستغلال الحكيم للموارد، وحماية الاقتصاد من الاضطرابات الخارجية، وتعزيز الأداء عبر مختلف مراحل سلسلة التوريد.

من ناحية أخرى، تسهم الممارسات الدائرية بالارتقاء بجودة الحياة، حيث يؤدي توسيع مفهوم المدن الدائرية إلى خفض الانبعاثات، بالإضافة إلى تحسين مستويات كفاءة استخدام الطاقة، والحد من كمية النفايات، وتحقيق أوجه التعاون عبر القطاعات المختلفة. وتسعى دول مجلس التعاون الخليجي إلى إرساء الأسس لدعم أنشطة المدن الدائرية، كما تم وضع العديد من الاستراتيجيات التي بدأت بالفعل بتحقيق مساهمات قيمة.

وفي الإطار ذاته، نشرت وزارة البيئة والمياه والزراعة في المملكة العربية السعودية مؤخراً مسودة سياسة لمعالجة النفايات وتطوير البنية التحتية لإعادة التدوير. وقد أثبت هذا التركيز على المفهوم الدائري تأثيره الإيجابي، مع قيام الجهات الفاعلة على مستوى القطاع بتحديد مصادر فرز النفايات أثناء معالجتها وإعادة تدويرها بتصميم جديد على نحو استباقي. كما وضعت المملكة لوائح تنظيمية تمنع استيراد مواد البلاستيك غير القابلة للتحلل، في حين تم إنشاء نظام “مستدام” لتصنيف المباني الخضراء، وتوحيد الممارسات عبر قطاع البناء المستدام .

الخطوات نحو الانتعاش الدائري

بدايةً، يجب على دول مجلس التعاون الخليجي تبني استراتيجيات وسياسات ونماذج تمويل شاملة لتمكين إجراءات تطوير المدن الدائرية، وتمكين الأطر ذات الصلة في مراكز النشاط الاقتصادي، مثل المراكز الصناعية والمناطق الحرة. ويعد استهلاك المواد من الجوانب الأساسية في تحديد رؤية الاقتصاد الدائري التي يمكن أن تسهم إلى إحداث إصلاحات شاملة في مجال تدفق المواد: حيث يعد قطاع البناء والإنشاءات مثالًا جيدًا على ذلك، نظراً للكميات الهائلة من المواد الخام التي يتم استهلاكها والنفايات الناجمة عن هذه المواد. وبالتالي يجب استبدال منتجات البناء التقليدية أو تعديلها على النحو الأمثل، نظرًا لأنها عادة ما تكون غير مستدامة أو غير قابلة لإعادة الاستخدام؛ وتتطلب المخططات العقارية إصلاحاً شاملاً لحين تطوير القدرة على دمج العناصر الدائرية بشكل أفضل مثل النفايات والمياه ومياه الصرف الصحي المعالجة.

ثانياً، يجب أن تتطور سلاسل القيمة الرئيسية لتشمل نهجاً متكاملاً يعزز التواصل بين القطاعات المختلفة لتحسين استخدام الموارد وإعادة استخدامها، بالإضافة إلى بناء المهارات وإشراك الجهات المعنية لتمكين منهجية الابتكار الدائري. ومن المفضل أن تتضمن إجراءات القطاعين العام والخاص ذات الأولوية برامج إدارة المعلومات القائمة على المهارات لتعزيز الاستخدام واسع النطاق لتقنيات إنترنت الأشياء وإعطاء الأولوية لتخطيط الطلب المرتبط بعمليات تطوير الموارد. على صعيد آخر، سيكون من المهم توافر أسواق متنوعة للمواد والمنتجات القابلة للتدوير، ومن المتوقع أن تساهم هذه الأسواق في إطالة دورة حياة المنتجات التي تتطلب موارد عالية (مثل السيارات والمضخات).

ورغم أن هذه الجهود قد تكون غير واضحة، إلا أنه قد تم استنباط أفضل الممارسات من المدن التي تبنت ممارسات رائدة في مجال الاقتصاد الدائري. ويتم تعليم المؤسسات في لندن على نماذج الأعمال التجارية الدائرية الممكّنة بالاقتصاد الدائري، مع الحرص على توفير الحوافز لضمان ازدهار المدينة عبر استخدام المواد والموارد المستدامة، بحيث يتم قياس النجاح عبر مؤشرات عدة، بما في ذلك عدد الوظائف المستحدثة، والأعمال التجارية المدعومة، والمنتجات الجديدة المطروحة في السوق. وقد أصبح مفهوم الاقتصاد الدائري في بروكسل مقومًا أساسيًا لتحسين الكفاءة، وزيادة الموارد المحلية، وتشجيع الابتكار وريادة الأعمال، وتحفيز الاقتصاد المحلي، حيث استفادت أكثر من 140 منظمة مرتبطة بالاقتصاد الدائري من الدعم المالي حتى الآن، وتلقت أكثر من 200 منظمة أخرى إرشادات موجهة لاعتماد نُهج الاقتصاد الدائري.

وبالمثل، أنشأت سنغافورة مجمعاً صناعياً يضم مبادئ الاقتصاد الدائري لتجربة أوجه التفاعل وتعزيز الابتكار وبناء شبكة تآزرية من الشركات الصديقة للبيئة التي تطلق العنان أمام فرص المفاهيم الدائرية عبر المجالات المختلفة. وكما هو الحال في لندن، يتم قياس النجاح في سنغافورة بالاستناد إلى فرص العمل المستحدثة، فضلاً عن الأعمال التجارية والحوافز والمرافق الجديدة المنشأة التي تسهم في تعزيز الابتكار وعمليات تبادل المعرفة. ويمكن لدول مجلس التعاون الخليجي في البداية استخدام هذه الأمثلة كجهات معيارية، ومن ثم تحقيق نتائج أفضل عبر الاعتماد عليها كتجارب تعليمية. وفي هذا الصدد، يتطلب النجاح اعتماد أربعة محاور بمثابة أولويات استراتيجية للبلدان التي تسعى جاهدة للكشف عن الفرص المؤثرة للاقتصاد الدائري:

• إعادة النظر في سلاسل القيمة: على دول مجلس التعاون الخليجي الساعية لامتلاك مدن دائرية تعزيز الابتكار عبر مختلف مستويات سلاسل القيمة للصناعات الرئيسية، وإعادة تصميم التقنيات الجديدة وتحسينها وتنفيذها حيثما كان ذلك ممكناً لدفع النمو المستدام.

• دعم جهود الحد من النفايات وتحسينها: يمكن الحد من النفايات على مستوى المدينة الدائرية إلى جانب تعزيز القيمة من خلال تطوير التقنيات وتحسين البنية التحتية ومرافق المعالجة ووضع السياسات ذات الصلة. وقد يتمثل أحد الخيارات القابلة للتطبيق في فرض تعريفات مخصصة لكل مادة على الجهات الفاعلة المحلية والصناعية لضمان امتثالها.
• تنظيم وتنسيق خدمات المدينة المشتركة: يجب على الدول ضمان توافر وتغلغل عناصر الاقتصاد الدائري عبر خدمات المياه والصرف الصحي والطاقة والنقل. على سبيل المثال، يمكن تحسين القدرات الدائرية من خلال تطوير البنية التحتية للعدادات الذكية الخاصة بالمرافق في المناطق المكتظة بالسكان.

• إنشاء اقتصاد تشاركي: ستعمل النماذج الجديدة للتفاعل والتعاون بين الهيئات الحكومية والشركات والمؤسسات الصغيرة والمتوسطة والسكان على تحسين استخدام الموارد. وتشمل الأمثلة على ذلك النقل المشترك والعمل المشترك ومشاركة المواهب والتمويل الجماعي وزيادة مستوى الاستفادة من منصات إعادة البيع والتداول.

ومع مضي دول مجلس التعاون الخليجي قدمًا نحو الاستدامة، سيؤدي تحقيق تطلعات الاقتصاد الدائري إلى ترسيخ منظومة آمنة وحيوية للشركات والقطاعات والمجتمع في المستقبل. ونظراً لتمحور مفهوم الاقتصاد الدائري حول تعزيز الجوانب المفيدة، بدلاً من تجنب الأعمال الضارة، فيجب تحقيق الأولويات المذكورة أعلاه على عجل، بحيث يتم إعادة تدوير الانبعاثات وتقليل النفايات في سلسلة قيمة جديدة ومؤثرة. وستكون المدن البارزة بمثابة الأساس لمثل هذا التطوّر، كما ستسهم الشركات العاملة في المنطقة – في أثناء التعلم من الدول الأخرى لتنفيذ المتطلبات المذكورة أعلاه – في إطلاق القيمة المحتملة والاستفادة من المزايا الاقتصادية الجديدة على نحو مستمر.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *