اجتماعية مقالات الكتاب

حلم التخفي …

حلم البشرية منذ الأزل، أن يتمكن الإنسان من إخفاء نفسه عن أعين الناس، وأقصد هنا التخفي ـ وسخر لذلك جل إمكاناته المتاحة من سحر وشعوذة وخدع بصرية وبعض الاختراعات العلمية كالمرايا والملابس العاكسة والصناعات الكيماوية الخ.. كل ذلك من أجل تحقيق هذا الهدف..
ولكن لماذا كل هذا الهوس الذي يدفع الإنسان إلى التخفي ..؟!

هناك أسباب عديدة لذلك، ومنها بعض الأمراض (الدائمة ) النفسية والاجتماعية التي تعوق الإنسان من الظهور المباشر أو ثباته تحت دائرة الضوء أمام أعين مجموعات صغيرة أو كبيرة من الناس .. أو أنه يعاني الارتباك والخجل الخ .!! وهناك أسباب أخرى مثل الفضول والشغف بالتجسس.. والغيرة .. والجريمة .. وأهم من كل ذلك هو الأغراض العسكرية التي لن تتحقق إلا من خلال تخفي الجنود والمعدات العسكرية بكل أنواعها، وبذلك يمكن أن ينخدع العدو ويتحقق النصر .
ويمكن أن نرجع أسباب هذا الشغف في التخفي .. حتى يتمكن الإنسان من تحقيق أحلامه وحاجاته ورغباته الشخصية الخاصة والسرية التي لا يمكن له تحقيقها أو إشهارها أو ممارستها علانية .. بل يشبعها ويحققها ويكشف حقائقها وهو متخف.. بعيدا عن المباشرة.

ومن قبيل الصدف يقول محدثي : حلمت أنني أمتلك طاقية الإخفاء وفرحت بها .. ووضعتها على رأسي .. وذهبت كي أحضر الاجتماعات الشهرية لوزراء دفاع دول العالم الكبار؛ كي أرى وأسمع ما يحيكونه ضد الدول الصغيرة .. وضد البشرية من مؤامرات لاقتناص ثرواتها، بل وكيف يستولون على ثروات الدول الغنية ..
وقال لي .. ثم انتقلت متخفياً .. إلى بيوت ومنازل المشاهير كي أرى وأشاهد كيف يعيشون ويتصرفون ويتعاملون داخل قصورهم .. بل كيف تبدو أشكالهم وملامحهم دون مكياج أو ملابس السهرة المبهرة، وهل يمارسون نفس المثالية التي يرسمونها عن شخصياتهم في وسائل الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي.

وقال محدثي أيضا: وبعد أيام .. ذهبت إلى حيث يتخفي المجرمون والقتلة ومروجو المخدرات لأستمع إلى مناقشاتهم وخططهم وأنقل المعلومات إلى الجهات الأمنية لمعرفة أهدافهم والإطاحة بهم..
وسألت نفسي .. هل أرغب أن أكون متخفيا .. لا يراني أحد .. وكانت إجابتي النابعة من وعيي العميق .. نعم في بعض الأحيان .. عندما أمشي وسط مجموعة كبيرة من الناس، أو عندما أقف محاضرا وأعين العشرات والمئات من الحاضرين متوجهة إلي .. أو حينما استعرض بعض الأفكار الجديدة والآراء غير التقليدية .. فلا أريد أحداً أن يراني .. إنها طبيعتي البشرية .. ولكن سألت نفسي أيضا .. ماذا لو لم أتمكن من الاختفاء؟! .. هل سأعتزل الحياة .. فكانت صرختي عالية قطعاً لا .. وألف لا .. لأنني أعتز وأفتخر كثيراً بما أقول وأفعل … ولكن طاقية الإخفاء تدعمني نفسياً..

وعندما ذهب محدثي .. بحثت في الموضوع .. وجدت أنني لست الوحيد الذي يتوق أن يتخفى في مواقف عديدة تفحمنا بها الحياة .. فالتخفي يتيح لنا المواءمة والتموضع والاستعداد وإزاحة الخجل والتوتر والقلق ، بل التأقلم مع المكان والزمان..
وأخيرا، فإن المستقبل يخبئ لنا مفاجآته العظيمة في التخفي بعد ما استطاعت التكنولوجيا والعلوم من إخفاء الأشياء وذلك من خلال اختراق الضوء لها .. وبالتالي تختفي .. حيث إن ما نراه في الأساس هو انعكاس الضوء علي أجسامنا وأشيائنا فلذلك نراها متجسدة أمامنا ..
التخفي حقيقة لم تكتشف بعد.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *