اجتماعية مقالات الكتاب

الزمن الجميل نسخة لا يمكن استعادتها ولكن !!

ظهر في الأعوام القليلة الماضية مصطلح مايسمى بالزمن الجميل أو زمن الطيبين أو ماطاب للناس أن يقولوه من المسميات المختلفة التي تدور في فلك هذا المعنى.

إن هذا المصطلح لم يأت من فراغ فقد جاء نتيجة تغيرات أحدثتها المراحل الإنتقالية في حياة الناس مما يعتقد أن زمنهم الحالي لا يتوافق مع بساطة الحياة وديناميكيتها الهادئة في مرحلة حياتهم السابقة التي أصبحت أكثر تعقيداً وتكلفاً وتبدلاً في المواقف النبيلة والمشاعر الإنسانية والتعاملات اليومية التي إختلفت كلياً بسبب ماطرأ عليها من تغيرات متسارعة فرضها واقع هذا الزمن الذي تحكمت فيه وسائل التواصل الاجتماعي والانفتاح الإعلامي على مصراعية الذي فرض نمطاً موحداً على الناس وأصبحوا أسارى لهذه الوسائل لايبرحون غرفهم مقبلين عليها بكل حواسهم وإهتماماتهم ولا يرغبون في الزيارات المتبادلة بين الأسر والأقارب وتقوقعوا في أماكنهم ولم يتوقف الأمر على هذا الحد بل أصبحت الأسرة الواحدة تعاني من العزلة الاجتماعية داخل محيطها حتى أصبحت تلك المظاهر الاجتماعية الجميلة مجرد ذكريات من الماضي.

ولأن كثيراً من الناس يتحسرون على ذلك الزمن الجميل الذي أفل نجمه وغابت شمسه ويتمنون لو أن يعود إليهم مرة أخرى ,بل إن البعض يحاول أن يعيش بعضاً من تفاصيل تلك المرحلة والدخول في أجواء شبيهة أو قريبة منها في ظل مقومات قديمة من بقايا تلك المرحلة أو أدوات مستوحاة منها ولكن غالباً ما تفشل تلك المحاولات ولا يتحقق منها إلا الشعور اليسير الذي يتبخر سريعاً تحت وهج الحاضر الذي بسط نفوذه على مكونات وتفاصيل حياة المجتمع بمفهومه وصبغته الجديدة التي تختلف كلياً عن ذلك الزمن الجميل.

إن محاولة استرداد الزمن الجميل بمفهومه ومقوماته وأدواته السابقة أمراً في غاية الصعوبة لأن الزمن لايعود إلى الوراء والنهر لايتقهقر إلى الخلف ,كما أن جيل آبائنا الذي عشنا تحت كنفهم قد فات أو قارب على الإنقضاء وهو مكون رئيسي لرسم ملامح جيل الطيبين وكذلك التعليم بمعلميه وأدواته السابقة وإمكاناته ومدارسه المتواضعة ورفاق الدرب الذين تغيروا وكبروا وتغيرت مفاهيمهم للحياة وتباعدت بهم الخطى ولحظات السعادة التي كنا نقضيها مع بعض في أروقة المدرسة وفي الطريق من البيت إلى المدرسة والعكس وما يتخللها من مشاكسات ومماحكات وغيرها من السلوكيات والمنهجيات اليومية ووسائل الترفيه التي كانت في وقتها ثورة كبيرة في عالم الترفيه مثل المسجلات والفيديوهات التي جاءت آنذاك في ظروف معينة صنعت لنا نمطاً معيناً من واقع معطياته إعتبرناه من خلالها زمناً جميلاً وبعد إنتقالنا إلى الزمن الحالي الذي شدنا إليه حنين الذكريات وشعرنا بقيمته ولكننا لانستطيع استعادة ذلك الزمن مهما حاولنا , فتلك مرحلة إنقضت بكل مكوناتها وأدواتها, فالصغير له وضع لايمكن الاحتفاظ به طوال الزمن للقيام بنفس الدور بعد الكبر وأجواء المدرسة ولعب الكرة بين بيوت القرية مع ممارسة لعبة الكيرم والضومنة والباصرة والقطرة والزقلة وممارسة الرعي والزراعة وتقارب البيوت واختلاط الناس دون حواجز والملابس المتواضعة وملامح البراءة والبؤس في الوجوه والنوم المبكر في حياة أهل القرى التي لم تكن تعرف المدنية سوى في بعض أبسط مقوماتها من سيارات الدفع الرباعي والحراثات وطواحين الحبوب وأجهزة التلفزيون المتواضعة والراديو والعصيرات المعلبة وبسكوت أبو ميزان التي كانت تأسرنا ونعشقها والأتاريك والفوانيس ومولدات الكهرباء الخاصة التي كانت تعمل لساعات قليلة قبيل المغرب بقليل حتى الساعة التاسعة ليلاً ليخلد الناس بعدها إلى النوم إستعداداً لممارسة الحياة بشكلها المعتاد في فجر يوم جديد وغيرها من المقومات المتنوعة والعديدة التي يطول إستعراضها في هذا المقام والتي لاتخفى على الكثير من الجيل الذي لايقل عن الأربعين ولايزيد عن الستين وهم المعنيين بجيل الطيبين.

إن زمننا هذا زمن جميل أيضاً متى ما أردنا أن نتعامل معه بواقعية وبمقوماته الحالية وبما يتناسب مع مراحلنا العمرية بشرط أن نتخلى عن بعض المفاهيم والسلوكيات السلبية المكتسبة منه وأن نتحرر من قيود أجهزتنا التي لم تضفي علينا السعادة الحقيقية بقدر ما خلقت لنا جواً مشحونا بالتوتر والأمراض النفسية والانغلاق والانعزال الكلي عن بعضنا نتيجة إدمان متابعتها وما ينقل فيها من إشاعات ومعلومات مغلوطة تفتقد إلى المصداقية والمرجعية الموثوقة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *