اجتماعية مقالات الكتاب

الغرفة البيضاء !!

أدركت أننى قد عدت للحياة من جديد بعد أن تردد كثيرا على مسامعى اسمىي.
كان صوت الأطباء داخل غرفة العمليات، تلك الغرفة التى لا يدخلها أى أحد إلا مضطر.
بالرغم من جدرانها البيضاء إلا أنها تحمل لنا جميعا أوجاعا لا تنسى.

فكم مرة شهدت جدرانها خروج الروح من الروح، وأحيانا كثيرة خروج الروح من الجسد لكنها فى تلك اللحظات، شهدت خروج روحى من رحم الألم..
لم أجد حولي سوى أصوات الأجهزة الطبية الكثيرة والتى كان جزءا كبيرا منها معلقا بى، وأسمى فى تلك اللحظة تماما شعرت بألم شديد كاد أن يفترس جسدي المنهك، لكنني لم أبك أو أصرخ..

كنت على درجة كبيرة من التحمل، فأي وجع سيشبه أوجاعي بالأمس!
انتقلت لغرفتي في هدوء وأنا تارة بين الوعي وتارة أخرى بين الغيبوبة، لكن المسكنات كانت أقوى من كل أوجاعي فأسكتتها وجعلتني أخلد للنوم على الفور.

أستيقظت مع ساعات الفجر الأولى من جديد بسبب شدة الألم، كان المكان هادئا للغاية لكن داخلي صخب شديد..
تحليت بالصبر على أوجاعي وقررت الصمت من جديد، حتى تذكرت إننى فى السابق كنت شديدة الحساسية تجاه كل الأشياء، فالأشخاص وحتى الأماكن كانت تشعرنى برهبة، خشية الشعور القاتل بالخذلان منها.

لقد كنت أتمنى كثيرا لنفسي أن تلتقى ولو بشخص واحد على الأقل يأخذ أحزانها وأوجاعها على محمل الجد، شخص يؤذيه غيابها، أو حتى يشعر بكلماتها، شخص يمكن أن يعيد لها الأمان.

لكننى أدركت أن كل شيء حولى ما هو إلا بطولات من ورق، فالوعود كاذبة، والإبتسامات زائفة، والنفوس خبيثة، والملامح تكسوها المصالح، كانت كلها أسباب فى أن أصل لذلك السرير الأبيض الذى أكرهه بشدة.
لكن.. إذا كان يحق لي أن أبوح بما في قلبي حقا، فأنا متعبة جدا يا الله وخائفة وحزينة، أحتاج السكينة من كل الأوجاع، أحتاج العزلة بعيدا بقلبى، فأنا وحيدة بالرغم من كل الأشخاص حولى فى السابق كنت أتحدث عن كل الأشياء دون أن أشعر حقيقتها، فالفراق على سبيل المثال لم أكن أعلم أنه موجع بهذا القدر حتى فقدت أبى.

المرض، عرفت كل شيء عنه، لكننى لم أعرفه جيدا حتى مرضت.
حتى الحب، كتبت كل شيئ عنه ولكننى لم أجربه.
بوصفها تجربتى الشخصية.. لا تعظم الحزن.
تعلم أن تتلقى كل شيء بنفس راضية مطمئنة، لأن يومآ ما سيقضى الحزن عليك إن لم تقض عليه.
ولا تستعجل الأقدار، فلو اطلعت على ما تخفيه الأيام لك لشعرت بتفاهة مشاكلك.

وأخيرا.. لا تعطى لكل من لا يستحق أكثر مما يستحق، فالخيبات موجعة ولا تفرق بين الناس سوى بحجم طيبة قلوبهم وصفاء نواياهم.
أما بالنسبة لى الآن، فأنا لا أحلم سوى بمنزل صغير يكسوه السلام بعيدا تماما عن اللون الأبيض!
منزل تحيطه الأشجار الخضراء المثمرة التى تملؤها زغاريد الطيور، والورود الحمراء التى تداعبها الفراشات من كل جانب،تتلألأ أمامه المياه العذبة كحبات الكريستال النقى، أشاهدها بشغف وهى تسابق السحاب لترسم قوس قزح من خيوط الشمس المشرقة فى السماء الزرقاء الصافية أتابعها بصمت مريح وإبتسامة رضا وأنا بالمنزل أحتسى قهوتى وأستمع لسيمفونيتى القديمة على الجرامافون.

إنها أحلامى القديمة يا أصدقائى، ونفسى التى اشتقت إليها كثيرا.
بوصفها تجربتى الشخصية.. إذا أردت أن تصبح مثلي، فلا تشبهني سوى بالأحلام!
فالألم لا يطاق وسيقتل أحلامك حينا تلو الآخر، فأنا قد تألمت وحدي، وتعلمت أيضا وحدى أما أنتم فقد أصبحتم تملكون الآن رفاهية الاختيار، دون أن تكونوا مجبرين على تجاوز كل انهيار مثلي.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *