أيتها الحياة القاسية.. ما خطبك معىّ..!
بعد كل المعارك التى خضتها من أجل أن أبقى تركتينى وحيدة، شريدة، مشتتة من جديد
إننى حزينة جداً.. حزينة لدرجة يكاد قلبى فيها أن يقطر دماً
كنت أظن أنك هنا.. كنت أعتقد لوهلة أنك راحتى بعد التعب.. بعد تلك الرحلة الشاقة الطويلة التى فقدت فيها كل ما أملك من حب ودفئ وأمان وحنان رحلت
قد لا تسعفنا الكلمات، ولا يفيدنا البكاء بشيئ، فليس بالضرورة أن تكون ضحكاتى دليلاً على السعادة ففى داخل كل ضحكة ألف حزن وحزن، ولا دائماً كانت دمعاتى تدل على أننى حزينة، ففى كثير من الأوقات كانت دموعاً لإنتصارات إنتظرتها طويلاً
لكننى بين ليلة وضحاها تحولت كل بطولاتى وصراعاتى لبطولات من ورق.. ذهبت مع الريح وتبخرت كل أحلامى.. ولم يبقى لى سوى الحزن.. إنه الشيئ الوحيد الذى أتيقن يوماً بعد يوم أنه مخلص حد الموت تجاهى
إذا كان الطريق الآن طويل فالبعد أصبح أطول..
فى وقت كان بالأمس طويلاً علىّ، محملاً بأحلام ظننت أنها ستحقق، وآمال إعتقدت أنها قريبة، وغد كنت أحسبه قريب..
كنت أظن بأن رحلتى الجديدة بعد رحلتى إلى حافة الموت قد إنتهت وحان وقت راحتى وإحساسى الجديد بالأمان بعد أمانى الذى فقدته بالأمس فى وجيعة هى الأقوى من نوعها فى حياتى على الإطلاق…
كنت أظن أنك هنا.. جوارى حتى وإن لم تكن قريباً بشكل تقليدى أمامهم.. كان يكفى أن تعلم أننى لا أبحث عن المثالية، إننى أبحث فقط عن الدفئ والأمان، ليتك كنت تعلم بما أخفيه داخلى تجاهك
أنا لست حزينة بقدر ما أنا أتألم من كل شيئ حولى..
أعيذ قلبى الحزين من التعلق بما ليس له.. إنها دعوتى التى ذكرتها اليوم لكننى لم أكن صادقة فيها إلا بالحزن
لقد إختارت لى الحياة بالأمس كل شيئ دون إراداتى.. وعندما جاء وقتى اليوم لكى أختار تركنى كل شيئ اخترته بعدما ذهبت إليه بمحض إيرادتى..!
الدنيا تقتلنا جميعاً بأشكال مختلفة.. تقضى أولاً على النبلاء، ثم العقلاء، ثم الشرفاء، وبالنهاية الأوفياء… تتركهم يتألمون للنهاية حتى يصبح الموت أمنية بعيدة المنال عنهم
هذه السطور لن يفهمها أحد سوى المعنيين بيها..
لقد عدت بعد أن سبقتمونى للرحيل لسيمفونيتى..
إنها نفس السيمفونية القديمة، سيمفونية تشايكوفسكى السادسة والأخيرة..
إنها السيمفونية التى تعلمون تفاصيلها جيداً.. الأكثر كآبة ووحدة وبعد عن الضوضاء وكل مظاهر الحياة
لكننى تلك المرة لا أعلم لماذا أشم فيها رائحة الموت.. ذلك الموت الذى أنزل رحمة على ضعفاً لم أجد له سبيل فى الحياة
لماذا على أن أصارع كل شيء وحدى..!
إننى يا أصدقائى حزينة جداً، ضعيفة جداً، مكسورة جداً جداً جداً..
قد لا يبالى للأمر أحد.. لكن بداخلى إحساس بأن يوماً ما هذا العالم سينهار بعد أن شيده الضعفاء أمثالى ورحلوا
فما يبنى على أساس هش تستطيع الرياح أن تعصف به وقتما حلت..
فى السابق كنت أسخر ممن يدفعه الإكتئاب للكتابة فكيف للحزن والقلم أن يتفقان..
لكننى اليوم بعد الهزيمة الكبرى أدركت السبب..
الحزن والألم الممزوج بنكهة القهر والظلم والعجز تفوح منه رائحة مميزة جدا يعرفها كل من رتل أوجاعه بالكلمات، إنها رائحة الموت..
ولأننا ضعفاء بما يكفى ولا نستطيع الحصول على رصاصة الرحمة، نستبدل الموت بالغضب فنمسك أقلامنا فى وقت الضعف ونكتب ما لا يحمد عقباه
فى داخل كل منا حكاية، يمكن أن يحكيها ويمكن أن يحتفظ بتفاصيلها بين أوراقه القديمة، لا يفصح عنها خشية أن تلهب قلبه مشاعر الحزن القديمة التى لا يستطيع كبح جماحها
أيهما أشد وطأة على الإنسان.. الفقدان أم الإستمرار بدون قلب؟! هذا السؤال إجابته فى غاية الصعوبة.. فالفقدان يجعلنا نموت ونحيا بالدقيقة ألف مرة ونعيش على أمل كاذب بالعودة، بينما الإستمرار بدون قلب يجعلنا نستمر فى الحياة دون أن نبالى بكل شيئ وكأننا جثث متحركة
لا أستطيع ترتيب أوراقى الآن ولا سطورى ولا حياتى.. كنت أظن أنك هنا لتعين قلبى المتهالك على الحياة والمضى قدماً من جديد.. لكننى بالنهاية تيقنت بأن على أن أصارع وحدى من جديد فى بوابة جهنم، أصبحت مضطرة لأن أتعلم كيف أعيش دون الإستناد على كتف أحد فى أوقات التعب، أصبحت مضطرة لأن أمسح دموعى فى الظلام خشية أن يراها أحد حتى ظلى
واليوم أصبح لزاماً علىّ أن أتعلم كيف أعيش اليوم بتفاصيله ولا أنتظر تفاصيل الغد التى قد تحمل كل بشع ومرعب إلى.. الصورة ضبابية وتكاد تكون سوداء لا بريق فيها لأى أمل، الكل يمضى فى طريق وأنا فى طريق وحدى..
كاذب كل من حاول إنارة الطريق لى، تيقنت الآن يا أبى بأننى أعيش فى تلك الحياة وحدى
قد تكون عزلتى خيراً لى من حياة مزيفة أعيش فيها على أحلام أفيق منها سريعاً وأعود إلى أرض الواقع، لكننى قررت أن أهاجر بعيداً إلى مكان حيث لا يمكن لأى بشر أن يلحقنى فيه
وجوه أخرى، تفاصيل جديدة، حياة لا أعلم عنها أى شيئ، كمن إستيقظ من غيبوبة طويلة رحلت به بعيداً عن عالمنا لسنوات ثم إستفاق منها فاقداً للذاكرة داخل حياة لا يعلم عنها أى شيئ
براءة الأمس تحولت لنضج موحش، ففى السابق عندما كنت طفلة كنت أخشى الظلام أكثر من أى شيئ، لكننى الآن بعد إستفاقتى أصبحت أخشى البشر أكثر من أى شيئ أخر..
يقولون ما أصعب البناء وما أسهل الهدم، لكن الأمر يختلف بين البشر، فما أسهل بناء الأحلام وما أصعب هدمها، لا أحد يعلم وجيعة إنسان هدمت حياته بالكامل على يد شخص آخر، لقد جعله مضطراً لتقبل التعايش مع أمر لا يريده مهما كلفه الأمر، لكن لا حيلة له أو إختيار، كالموت البطيئ الذى يقتل صاحبه يوماً بعد يوم
سعادة زائفة ومكر حقيقى، وجوه لم تتغير كثيراً سوى بإضافة بعض التفاصيل المثيرة لها
سأغمض عينى الآن وأصمت للنهاية، حتى يحين لى التحدث من جديد عن حلم أعلم من الأن أنه مزيف.