اجتماعية مقالات الكتاب

ذبحنا البريستيج

من أجل البريستيج المبتور، نهمل الأولويات ، ونركز على الثانويات ، نبتعد عن الجوهر ونتجرع القشور ، من أجل أن نبدو ذوي حسب ونسب وجاه وسلطان ، نتغافل عن رؤية الواقع ونصم آذاننا عن تعاليم الدين وصوت العدل والمساواة ، غير مدركين أننا أصبحنا حال الذين وصفهم الرحمن في غيهّم يعمهون ، وأن البريستيج الحقيقي للإنسان يكمن في حضوره المتميز وما يملكه من سعة علم وثقافة وما يقدمه للإنسانية من جهد وانتاج.

من يهمه أمر البريستيج وتبعاته ، يحيط نفسه بهالة من البطولات الناقصة والأوهام المزيفة ، فهو يأنف زيارة المناطق الشعبية ، ولا يتعالج في مشافي الدولة ولا يُدرِس أبناءه إلا في مدارس خاصة ، ولا يستخدم المواصلات العامة في التنقل ، ولا يشتري ملابسه إلا من دور الأزياء والماركات الشهيرة ، وإن تواصل مع الناس، تحدث إليهم بتكلف وبلغة تعج بالمفردات الأجنبية .

وإذا ما هم بالسفر إلى خارج البلاد ، فلا يحجز إلا في الدرجة الأولى أو درجة رجال الأعمال على أقل تقدير ، ولا يقيم إلا في فنادق الخمسة نجوم ، ولا يتردد إلا على المطاعم العالمية الغالية الأسعار ، وإن تقلد منصباً وظيفياً ، اتبع سياسة الباب المغلق فلا يستقبل في مكتبه إلا كبار المسؤولين .وإن طلبت منه مساعدة تتطلب شيئاً من العمل اليدوي والجهد العضلي ، اعتذر عن تلبيتها بحجة أنه لم يتعود صنعها وقد تشوش على بريستيجه.

أؤمن أن الله خلقنا درجات فمنا الذي يملك ثروة ويحق له أن يستمتع بها ، وأنه تعالى يحب أن يرى آثار نعمته على عباده ، ولكن الذي ننشده في المقتدر مادياً أن لا يصاب بالغرور ويكون أكثر تواضعاً ، لا يُسمِع المحتاجين ضجيج تمايزه وجعجعة تصرفاته ، وأن يشبه بأفعاله الحسنة، ذاك الكريم الذي قدم صدقته للناس ثم تولى عن الأنظار حتى لا يرى حياءهم عارياً أمام عينيه كما جاء في قوله تعالى :(فسقى لهما ثم تولى ) ،والشيء الآخر الذي يحز في النفوس ، أن ترى اناساً ليست لديهم الامكانيات الكافية ورواتبهم محدودة ، ولكنهم أصيبوا بمرض البريستيج وداء التقليد ، فاقترضوا المال الكثير وبالغوا في الصرف على متطلباته على حساب تنمية أسرهم وتعزيز أسباب تقدمها .

جميل أن لا يناطح الانسان ذاته في معركة عقيمة ، وأن ينزل من برجه العاجي ويفتح قلبه للبسطاء من الناس ، الذين ابتعدوا عن التعقيد وأعفوا من ضريبة الحسد ونار الغيرة ، وعاشوا الواقع كما هو بحلوه ومره ، فربما تسرّه حياتهم ويقتنع بها ، فتخلصه من وهم الماضي الذي كبله ، وتنفي عنه صفة البطولة المزيفة التي وصفها الأعشى في شعره :
كناطح صخرة يوماً ليوهنها ……فلم يضرها وأوهى قرنه الوعل.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *