مقالات الكتاب

صناعة القرار تحت الضغط

نعم، نحن نخشَى القرارات الصعبة؛ لأننا نقف على حافة المجهول؛ لا نرى نتائج خطواتنا بوضوح، ونعلم أن لكل قرار ثمناً قد ندفعه وحدنا. وحين يخيّم الغموض، تتكاثر الهواجس في داخلنا: ماذا لو أخطأنا؟ ماذا لو خسرنا ما بنيناه بجهد السنين؟ ماذا لو كان الطريق الجديد أوعر مما نظن؟ غير أنّ الامتناع عن اتخاذ القرار لا يمنحنا الأمان كما نتخيل، بل يحبسنا في دائرةٍ مغلقة لا نغادرها، فنظل معلّقين بين خوفين؛ خوف من المضيّ إلى الأمام، وخوف من البقاء حيث نحن حتى تذبل أحلامنا. وقد أعادني هذا المعنى إلى ما طرحه رجل الأعمال عمر زنهم في إحدى حلقات البودكاست، حيث تحدّث عن كيفية اتخاذ القرارات الصعبة، مؤكداً أن الإنسان لا يعجز عن القرار لقلّة الخيارات، بل لأن ثقله العاطفي يجعل كل خطوة تبدو نهائية، فيغدو التردد ملاذاً مؤقتاً، يكلّفنا أعماراً من الفرص الضائعة.
ولامستني أفكار عمر زنهم؛ لأنني عشتُ بنفسي لحظةً من تلك اللحظات المفصلية، التي يتهدّد فيها المرء بين حلم قديم وطموح أكبر. فقد اضطررتُ لاتخاذ أحد أصعب قرارات حياتي المهنية: قرار بيع نادي اللياقة الذي أنشأته بيدي، وكان بالنسبة إليّ أكثر من مشروع تجاري؛ كان طفلي الأول، وبدايتي الحقيقية في عالم الأعمال، ورمزاً لجهدي وإصراري. كنت أرى في جدرانه قصة تعبي، وفي كل تفصيلة منه جزءاً من أحلامي الأولى. ولذلك بدا لي بيعه، في لحظةٍ ما، وكأنه خيانةٌ لشغفي القديم. غير أن صوتاً داخلياً ظل يذكّرني بأن الحياة لا تُقاس بما نحتفظ به، بل بما نمتلك كم شجاعة لتركه حين يحين الوقت. كان ذلك الصوت يقول: إن الرحلة التي أطمح إليها أوسع من ذلك المكان، وأن مستقبلي المهني يحتاج إلى مسارٍ مختلف يحرّر طاقتي، ويفتح لي الطريق لتحقيق حلم آخر ظل يسكنني عقوداً طويلة: الوصول إلى القمم السبع حول العالم. ولولا ذلك القرار الصعب، لما كنت لأقف لاحقاً فوق تلك القمم، التي بدّلت نظرتي إلى الكون وإلى نفسي.
وما يدفع الإنسان إلى الهروب من القرار، كما توضّحه دراسة الباحثة ماري فرانس لوس بعنوان”معالجة الخيارات في القرارات ذات العبء العاطفي” والصادرة عام 1997، ليس العقل بقدر ما هو القلب؛ فالإنسان يميل بطبيعته إلى تجنّب الخيارات التي تثير لديه توتراً نفسياً، فيؤجل الحسم، أو يختلق مبررات واهية للبقاء حيث هو. وتوضح الدراسة أن الألم النفسي المصاحب للقرار قد يكون أشدّ وطأة من ثقل نتائجه الحقيقية، ولذلك نهرب من المشاعر أكثر مما نهرب من النتائج. هذه الحقيقة النفسية تفسّر كثيراً من حالات الركود في حياتنا، وتكشف لماذا نظل أحياناً سنوات طويلة عالقين أمام بابٍ مفتوح لا نملك الجرأة على عبوره.
ويعزز ذلك مقال قرأته للباحثة ديزي أوغر-دومينغيز المنشور في هارفارد بزنس ريفيو بعنوان” كيف نتخذ قراراً قيادياً يبدو مستحيلاً”، حيث تؤكد فيه أن القادة المعاصرين لا يواجهون قرارات بسيطة، بل مزيجاً متشابكاً من المخاطر القانونية والعملياتية والسمعية والثقافية، تجعل كل خطوة أشبه بمغامرة عالية الكلفة. وتشير الكاتبة إلى أن إدارة المخاطر التقليدية غالباً ما تُهمل التفاعل العميق بين العوامل المختلفة، فتُضخّم الخوف وتزرع التردد، وتدعو إلى رسم خريطةٍ واسعة للمقايضات، والاعتراف بالقيم التي قد تتعارض مع المتطلبات، والنظر إلى القرار من زاوية طويلة المدى. فالشجاعة ليست مجرد قدرة على اتخاذ القرار، بل هي أيضاً القدرة على تفسيره بشفافية، وتحمل تبعاته، وبناء الثقة أثناء المرور بظروف غامضة.
وعندما أتأمل اليوم تلك اللحظة التي حملتُ فيها مفاتيح النادي لآخر مرة، أدرك أنني مارست، دون تخطيطٍ واعٍ، جوهر ما تحدّثت عنه هذه المصادر الثلاثة: واجهتُ التوتر العاطفي كما وصفته دراسة لوس، وفهمتُ – كما أشار عمر زنهم – أن التردد لن يمنحني وضوحاً إضافياً، ثم نظرتُ إلى القرار من منظور أرحب، كما نصحت أوغر-دومينغيز، فوجدت أن القيم والطموحات التي أحملها أعظم من التعلّق بعملٍ واحد؛ مهما كان عزيزاً. لقد كان القرار مؤلماً، لكنه كان منسجماً مع الطريق، الذي أردتُ أن أسلكه في حياتي.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *