في عالم اليوم، أصبحت اللحظات تُقاس بعدد الصور والفيديوهات التي نحتفظ بها، وكأن ما لم يُوثق لم يحدث. الكاميرا لم تعد أداة، بل رفيق دائم يرافقنا في كل تفاصيل حياتنا، يأسر تفاصيلنا الصغيرة والكبيرة على حد سواء. ورغم شعورنا بالمتعة عند العودة إلى تلك اللقطات، إلا أن الإفراط في توثيق كل لحظة يسرق منا القدرة على أن نكون حاضرِين حقًا، فنحن نعيش للحظة، ولكن من خلال عدسة، لا من خلال إحساسنا الفعلي بها.
من المنظور النفسي، يكشف التوثيق المستمر خاصة في المواقف البسيطة واليومية كتصوير الطعام خصوصاً بشكل مُفرط عن حال الفرد وكأنه يقول:”أنا هنا… انظروا إلى حياتي، انظروا إلى اللحظة التي أعيشها”.
ويكشف دافع داخلي أعمق من مجرد حفظ الذكريات. كثير من الأشخاص الذين يوثقون كل شيء يعانون بطريقة غير واعية من خوف خفي: الخوف من عدم الظهور. هذا النوع من الخوف يجعل الفرد يشعر أن قيمته ترتبط بما يقدمه للآخرين من صور وحكايات، فيبدأ بالبحث عن تفاعل الناس أكثر من بحثه عن ذاته. وهنا يتحول التوثيق إلى محاولة لإثبات الوجود.
ومع الوقت، يصبح هذا السلوك عادة متجذّرة. يبدأ الشخص يومه وهو يفكر فيما يمكن أن يصوره، ويجلس أمام طبق الطعام وكأن المهمة الأولى هي تصويره قبل الاستمتاع به. ومع تكرار هذه الدائرة، تتشكل حياة قائمة على المظاهر لا على الشعور الحقيقي. فيتعلق الفرد بردود الفعل، وينتظر الإعجاب، ويشعر بالقلق إذا لم يجد محتوى مناسبًا ليشاركه. وهكذا تتحول الحياة تدريجيًا إلى استعراض يومي.
ولا يخفى علينا أن الإفراط في التوثيق يحمل كذلك عواقب نفسية مؤثرة. فهو يعزز المقارنات الاجتماعية، ويضع الفرد تحت ضغط مستمر للظهور بصورة مثالية، ما يؤدي إلى تآكل العفوية، وتراجع القدرة على الشعور الطبيعي. كما يخلق فجوة بين الشخص ونفسه، لأن مشاعره تصبح مؤجلة حتى الانتهاء من عملية العرض. ويبدأ العقل بربط السعادة بمدى تفاعل الآخرين بدل أن يرتبط بتجربته الذاتية.
ولتحقيق التوازن، لا نحتاج إلى ترك التوثيق، بل إلى استعادته إلى حجمه الطبيعي. يمكن للإنسان أن يصوّر، لكنه يحتاج أولًا أن يعيش. يحتاج أن يحتفظ ببعض اللحظات لنفسه، وأن يسأل ذاته قبل التصوير: هل أفعل هذا لأتذكر… أم لأُرى؟ وعندما يعود التوثيق إلى مكانه الصحيح، تعود الحياة لتكون حياة، لا معرضًا عامًا للحظات قد تفقد قيمتها حين تُقدَّم بلا شعور.
fatimah_nahar@
