من يتأمل المطار يجد أنه ليس مجرد بوابات للسفر بقدر ما هو مسرح مكتظ بالحكايات، مكان تتكثف فيه المشاعر، وتتقاطع على أرضه لحظات الفرح والوداع، لقاءات ممزوجة بالدموع والابتسامات والأمل المحفوف بالخوف، تتشابه تلك المشاهد في كل مطارات العالم تقريبًأ، فمن يتأمل أركان المطار يجد في كل زاوية أثر وحلم لإنسان ترك شيئًا من روحه خلفه، أو مضى نحو ما يظنه بداية لحياة جديدة، معظم من غادر علم أنه سيعود يومًا غريب، خلال رحلة بحثي عن صوت يصف هذا العالم من الداخل، عن حكايه لا يرويها المسافر بل من يراقب المشهد في صمت، من يري كل شيء لكنه لا يغادر، التقيت بأحد الأشخاص المرموقين من الذين تحمل جدران المطار لهم في كل زاوية بصمة، لم أكن أبحث معه عن معلومة جامدة، بل عن عين تري وتصف ما لا نراه نحن العابرين، لم يحدثني بلسان رجل يحقق الانضباط بالمطار، بل بقلب إنسان يري الطرق وهي تتقاطع بالدموع، بهدوء يشبه سكون الممرات في آخر الليل، وصوت وقور ثابت تحدث بكلمات تحمل ثقل التجربة التي كلفته علي مدار عمره جزءًا من قلبه، عيناه كانت تبدوان من بين الحروف كنافذتين تطلان على حكايات لم تقلها الشفاه، مزج الحكايات بخليط من الصرامة والعطف، كأن وظيفته التي فرضت عليه الانضباط لم تستطع كبح جماح قلبه، الذي أصر علي أن يتسلل بين التفاصيل، بصوت هادئ كمن تمر عليه الحكايات كل يوم دون أن يسمح له بالمشاركة فيها، قال: إنه رأى من المشاهد ما يكفي ليؤمن بأن المطار ليس مكانًا للعبور فقط، بل هو مرآة تعكس هشاشة البشر حين يواجهون فكرة الرحيل، علي مدار سنوات عمره شاهد لحظات من النقيض بين البداية والنهاية، الأمل والخوف، اللقاء والوداع، هناك حيث تقاطعت مصائر البشر في مشاهد متعددة تختصر حكايات بأكملها، بعضها يولد وبعضها يلفظ أنفاسه الأخيرة، يري أن الحياة ليست إلا سلسلة من محاولات البقاء المتماسكة أمام ما يفلت من بين أيدينا، كالطفلةً التي تمسك بأبيها وهي تبكي بحرقة، حتي لا يذهب بطل قصة حبها الأولي ويتركها، شاهدها بنظرات الأب الذي يتهدج قلبه أمام عجز صغيرته ومرت سنوات طويلة لم يستطيع فيها تجاوز ذلك المشهد أو محوه من ذاكرته، بالرغم من اختياره للكلمات بدقة، إلا أنه حين تحدث عن الألم يلين صوته فجأة كما لو أنه يواسي نفسه دون أن يشعر، بوابة أخري يقف عليها أبناء يلوحون بالوداع السريع لوالديهم وهم يخفون ابتسامة خجولةً من ارتياح عابر، لمح في عيون الأباء حالة نكران كأنهم لا يرغبون في تصديق تلك الحقيقة التي تهمس داخلهم بأن غيابهم منح الأبناء فسحة من الحرية افتقدوها في حضورهم، وأن تواجدهم أصبح مرهونًا بما ينفقون، تمني لو أخبرهم أن النظام الذي يضيقون به اليوم هو ذاته الأمان الذي سيفتقدونه غدًا، علي جانب آخر وجوه الأمهات الملوحة في الهواء تودع أبناءها نحو مصائر مجهولة، تتقاطع فيها دعوات الأمهات بالدموع، ويتعانق فيها الأمل مع الخوف، وعروس غادرت بالأمس فرحة، وهي ترتدي فستان زفافها الأبيض نحو الحلم، ثم عادت بوجه خافت الملامح، وروح أنهكتها الغربة، لأنها لم تكتشف الوحدة حين ابتعدت عن وطنها، بل حين وجدت نفسها غريبة بين أحضان من أحبت، بعد أن أكلت الغربة جزءًا من روحه، وأصبح جسدًا بلا روح.
NevenAbbass@
