مقالات الكتاب

الاستثمار في العقول.. طريق الأمم إلى المجد

ليست الثروات في باطن الأرض فقط، ولا في خزائن الذهب، ولا في أبراج المال والاقتصاد. إنما الثروة الحقيقية تكمن في العقول التي تفكّر وتبدع وتبتكر وتنتج قيماً جديدة للحياة. فالعقل البشري هو المنجم الذي لا ينضب والمورد الذي لا يزول والكنز الذي يزيد عطاؤه بحُسن استثماره.
فقد أثبت التاريخ عبر عصوره أن المجتمعات التي آمنت بقيمة الفكر، واعتنت بعقول أبنائها..ارتقت مكانتها وتخلّد ذكرها وتربّعت على عرش الحضارة. وحين استثمر العرب عقولهم في وقت مضى، أشرقت أنوار العلم من بغداد إلى قرطبة ودمشق والقيروان، وامتدّ ضياؤها ليبدّد ظلام أوروبا في ذلك التاريخ، وكان للعربية حضورها المؤثر في كثير من الميادين والعلوم، عندما كان العقل العربي مصباح الحضارة ومحرّك التقدم الإنساني.
وما تراجعت أي أمة وخبا وهجها إلا بسبب إهمال العقول وإغفال الفكر والانشغال بالمظاهر الفارغة، وما تقدمت أمة كانت في ذيل القائمة وقفزت إلى المقدمة إلا بجعلها من التعليم والمعرفة جسراً لعبور المستقبل.
والحقيقة أن الاستثمار في العقول ليس رفاهيةً، ولا خياراً ثانوياً؛ بل هو الطريق الوحيد نحو المجد والنهضة والسيادة؛ فالعقول الواعية هي التي تُبدع الحلول وتحوّل الأزمات إلى فرص والأفكار إلى منجزات، وهي التي تُنقذ الأوطان من التبعية، وترتقي بها إلى مصاف الرّيادة والتميّز.
ولذلك فإن أولى خطوات البناء الحقيقي تبدأ من البيئة التعليمية؛ لأنها المصنع الأول للعقول الناضجة والقيادات الواعية؛ فالمدرسة والجامعة ليستا مباني جامدة، بل هما ركيزة الحضارة ومحرّك الفكر ومنبع الإبداع إذا جرى استثمارهما على الوجه الصحيح. أما إذا تُرك التعليم يُدار بعشوائية أو يُنظَر إليه كعبءٍ مالي، فإنّ النتيجة الحتمية هي التراجع إلى الصفوف الأخيرة. وهو ما يجب إدراك أبعاده من كافة المعنيين؛ لأنه لا يقارن ببقية القطاعات.
فقد أدركت الأمم العظيمة أن الاستثمار في الإنسان هو أعظم استثمار على الإطلاق، فبالعقل تُبنى التكنولوجيا وبالفكر تُصنع الحلول وبالعلم تُدار الحياة. ولذلك نراها تُوجّه ميزانياتها للأبحاث والدراسات وتُعلي من شأن المفكرين والعلماء، وتغرس في الناشئة حبّ المعرفة وروح الابتكار؛ لأنها تعلم أن المستقبل يُصنع بالعقول التي تُنتج وتبدع. فكل عقل يُستثمر فيه هو بذرة لمستقبل مشرق وكل فكرة تُحتضن هي طاقة نور تفتح دروب التقدّم والازدهار.
فنحن اليوم أمام منعطف تاريخي تتسارع فيه المتغيرات العلمية والتقنية والفكرية بوتيرة غير مسبوقة، والعالم لا ينتظر المتأخرين إطلاقاً ولا يرحم المتقاعسين، بل يفتح أبوابه للعقول المبدعة والكفاءات الفذّة القادرة على مواكبة المستقبل وصناعته. فليس من سبيلٍ للنهضة إلا بالإيمان المطلق بأن الإنسان هو الثروة الأغلى والأهم، وأن التعليم والمعرفة والبحث العلمي هي مفاتيح المجد والسيادة.
ومن الجميل حقاً أن قيادة المملكة أولت هذا الجانب اهتماماً بالغاً من خلال رؤية 2030 التي جعلت الاستثمار في الإنسان محور التنمية وركيزة المستقبل..إدراكاً منها أن الدخول في عالم المنافسة العالمية لا يكون إلا عبر العقول القادرة على الإبداع والابتكار والإنجاز.
ولعلّ ما نشهده اليوم من نماذج مشرّفة لشباب المملكة العربية السعودية، يؤكد أن الاستثمار في العقول بدأ يُثمر واقِعاً جميلاً وواعداً. فحصول العالم السعودي الدكتور عمر ياغي على جائزة نوبل للكيمياء يُعد تتويجاً فخرياً للفكر العربي حين يُمنح الفرصة، ويُحتضَن في بيئة علمية محفزة. كما أن تفوّق عدد من طلاب المملكة في المسابقات العلمية الدولية، ومنهم الطالب عبدالله الغامدي الذي انضم انضم مؤخراً إلى فريق ياغي البحثي. بعد أن حقق- من قبل- مراكز متقدمة عالمياً وغيره من المبدعين والمبدعات في عددمن المجالات ما هو إلا دليل حيّ على أن العقول العربية حين تجد الدعم والرعاية، تُدهش العالم بعطائها ونبوغها.
لا شك إن أعظم استثمار يمكن أن تقدمه الأمة لأبنائها هو الاستثمار في عقولهم، لأنهم الوقود الحقيقي لمسيرة الحياة وهم من سيكتب فصول مجدها بمداد العلم والوعي والإتقان.
فالأمم تُبنى بالعقول والأفكار، لا بالطوب والأحجار.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *