قرأتُ مؤخرًا كتاب”نظرية دعهم” للكاتبة ميل روبنز، فكان بمثابة محطةٍ فارقة تعيد ترتيب المفاهيم في أذهاننا حول كيفية التعامل مع الناس، وإدارة طاقتنا ومشاعرنا. وجدتُ بين صفحاته ما يشبه المفتاح الذي يفتح باب الطمأنينة الداخلية، ويحرّرنا من دوامة الانشغال بمحاولات الإقناع المستحيلة وتصحيح الانطباعات المغلوطة. ومن هذا المنطلق رغبتُ أن أشارك القارئ ما خرجتُ به من هذه التجربة، لعلها تكون إلهامًا لكل من أثقله عبء التبرير للآخرين وأرهقه الركض وراء رضاهم.
تقوم الفكرة الجوهرية في الكتاب على عبارتين موجزتين: دعهم ودعني، و”دعهم” تعني ترك الآخرين وشأنهم دون حمل تصرفاتهم، و”دعني” تعني الالتفات للنفس وضبط الانفعالات والقرارات، وحماية السلام الداخلي من إرهاق السيطرة على ما لا يُمكن التحكم فيه.
على المستوى الشخصي، يمكن القول إن محاولة إقناع الناس مهمة مستحيلة، إن لم تكن الرغبة في الفهم موجودة لديهم أصلًا. كثرة الشرح لا تُثمر فهمًا، بل تُنزف معها القدرة على التركيز. تُعلم أن التبرير الدائم يبدّد الكرامة والوقت، وأن القبول بوجود من سيبقى على خطئه حتى النهاية ليس انهزامًا، بل وعيٌ بحدود ما أملك تغييره. بهذا الفهم هدأت نفسي، وتراجعت ردة فعلي، وارتفع منسوب سكينتي.
وعلى الصعيد العملي، تشير إلى أن القيادة ليست سباقًا لإرضاء الجميع، بل مهارة المحافظة على الاتجاه الصحيح رغم الضجيج. في بيئات العمل سيظهر دائمًا من يعارض لمجرد المعارضة، ومن يسيء الظن، ومن يروّج روايةً مبتسرة عن قرارٍ أو مشروع. إذا انشغل القائد بالرد على كل همسة فلن يبقى له وقتٌ للبناء. أمّا حين يعتنق مبدأ “دعهم”، فإن طاقته تبقى مصروفةً حيث ينبغي: التخطيط، التنفيذ، ومحاسبة النتائج.
أحد أهم النقاط في هذا الكتاب أن الخوف من كلام الناس قيدٌ داخلي نصنعه بأيدينا. حتى المقرّبون قد يسيئون الظن في لحظة ضيق، فهل نعقل أن نرهن قراراتنا لتقلّباتهم؟ الحرية تبدأ حين نقول بوضوح: دعهم يخطئون في حقي، ودعني أمضي في طريقي. تلك الجملة لا تُشيع القسوة ولا تدعو إلى الانعزال؛ إنما تُعلّمنا الفرق بين التعاطف وتمثّل دور المُنقِذ، وبين التواصل والحاجة المرضية إلى الاستحسان.
ومن الدروس التي خرجت بها أيضاً من الكتاب أنّ ترك الناس وشأنهم لا يعني الانسحاب من العلاقات أو هجر الحوار، بل يعني الكفّ عن إدارة ما ليس لنا أن نديره. إصلاح كل خلافٍ وهمٌ مُنهِك، وملاحقة كل سوء فهمٍ استنزافٌ لا ينتهي. حين أقبل بأن العالم ليس ميدانًا لتبريراتي، أستعيد زمام وقتي وكرامتي، وأضع حدودًا واضحة: من أراد أن يغادر فليغادر، ومن شاء أن يسيء الظن فليفعل، ومن رغب في الحديث عني بغير حق فليتحمّل تبعات قوله؛ أما أنا فلن أحمّل نفسي ما لا طاقة لي به.
“نظرية دعهم” في عالمي الشخصي تعلمني ان لا أطارد قناعات الآخرين، ولا أستنزف ساعاتٍ في إصلاح صورتي لديهم. فإذا واجهت نقدًا غير منصف أو انسحابًا مفاجئًا قلت لنفسي: دعهم يفعلون ما يريدون، ودعني أفعل ما اخترت.
دعهم وشأنهم… طريقٌ عملي إلى استعادة الهدوء والوضوح
