اجتماعية مقالات الكتاب

ما هكذا تورد الإبل يا سعد

سألني أحدهم، من دولة عربية شقيقة، غير خليجية، يُدعى سعداً، عن سر استقرار دولنا، دول الخليج، حتى في هذا الوقت العصيب، الذي اضطرب فيه كل ما حولها من دول، وتساقط معظمه كما تتساقط أوراق الشجر في الخريف من شدَّة الصقيع.
فأجبته:

أرجو يا سعد أن يتسع صدرك لما أقول: أنتم تنافقون حكَّامكم، وتكذبون عليهم، وكذلك هم يفعلون. لكن العجيب الغريب، إنهم يعرفون جيداً أنكم تنافقونهم. وبالمقابل، تدركون أنتم جيداً إنهم يكذبون عليكم ويخدعونكم، ومع هذا كله، تستمرون في تبادل الأدوار: كلما ارتفع صوت تصفيقكم لهم، إزداد ولوغهم في نهب ثروات بلدانكم، واشتغلوا بأنفسهم عنكم لإشباع نزواتهم.
فاليوم، في ظل هذا الإعلام الحديث، الذي جعل كل واحد منَّا يحمل العالم في جيبه، رأينا كلنا يوم سقط حكم ابن علي في تونس، واقتحمت الجموع الغاضبة قصوره الباذخة، لتتفاجأ بوجود تلك الأرتال من الصناديق الممتلئة بالذهب والمجوهرات من كل صنف، والنقود والأواني التي صنعت من ذهب خالص، حتى ملاعق الطعام.

ويوم انهار عرش مجنون ليبيا، تناقل الإعلام أخباراً تفيد بوجود مليارات الدولارات في حسابات شخصية تخصه في بنوك سويسرا وغيرها؛ إضافة لشاحنة محملة بالدولارات والأغراض الثمينة، تم ضبطها في إحدى دول أفريقيا، أحسب أنها نيجيريا إن لم تخنِ الذاكرة؛ ناهيك عمَّا وجدته الجماهير الهادرة في قصوره والانفاق التي حولها.

وتستمر المأساة، وتتكرر المشاهد الهزلية نفسها يوم سقوط ما كان يعرف ب (حكومة الانقاذ) في السودان الجريح، الذي ما زال يئن حتى هذه الساعة، ويقطر دماً بسبب سياسات تلك الحكومة الحمقاء، لنرى تلك المشاهد تتكرر في بيوت الرئيس المخلوع البشير، وكل دائرة الحكم القريبة منه: صناديق وشنط ممتلئة بالنقود من كل العملات، في وقت جفَّت البنوك من أي سيولة نقدية، حتى أصبح المواطن السوداني يستجدي البنوك لكي يحصل على حق الخبز؛ فصارت النقود توزع بالجرعات كالدواء تماماً، مع أنها حق المواطن وليست منَّة من الدولة. بل أسوأ من هذا وأشد مرارة وفجاجة: سمعنا الرئيس المخلوع البشير في فيديوهات كانت سريَّة، تم تسريبها إثر سقوط النظام يقول: (إن هذه الدولة ملك للحركة الإسلامية).. وأحسب ان كل مهتم يوافقني الرأي أن أولئك كانوا أبعد ما يكونون عن الإسلام، بل كانوا خصماً عليه، حتى في أخلاقهم على المستوى الشخصي، ناهيك عن ممارستهم للحكم. وهم السبب الأساسي في كل ما يحدث للسودان اليوم من فظائع تقشعر لها الأبدان.

واليوم، رأينا السيناريو نفسه يتكرر في قصور الأخوين الشقيين الأسد (بشار + ماهر): أسطول من السيارات من كل نوع، وعيادات متكاملة وأندية رياضية، وأنفاق مجهَّزة للاختباء والهروب، لا بد أن تكون كلفت المال العام كثيراً، فضلاً عن ذلك البذخ الفاحش في الأثاث وغيره. وسجون حمراء وسوداء وسرية بأفكار شيطانية تحت الأرض، لا بد أنها أيضاً كلفت كثيراً. وإن تم توظيف تلك الأموال التي هي حق أصيل للشعب لخدمته، لما حدث لهما ما حدث اليوم. تماماً كما رأينا سابقاً للأخوين الشقيقيْن في العراق (عدي وقصي).

أجل، بلدان الخليج مستقرة يا سعد لأن الوضع فيها غير ما عندكم تماماً. ولهذا في الوقت الذي أنتم تلعنون حكامكم وتسبونهم وتدعون عليهم في المنابر، نحن ندعو لحكامنا في صلواتنا بظهر الغيب، كما ندعو لهم أيضاً في البيوت وأماكن العمل وفي الملاعب والشوارع والمنابر وحتى في المطبخ، لا ينفك لساننا
عن الدعاء لقادتنا الكرام البررة بصدق أن يمتعهم الله بالصحة والعافية، وأن يبارك لنا في عمرهم ورزقهم وذريتهم وعملهم من أجلنا، وألا يغير علينا أبداً. لأن همهم الأول والأخير هو حماية استقلال بلداننا وتنميتها وتطويرها وازدهارها، وحفظ كرامتنا، وتيسير سبل الحياة الكريمة لنا، وتحقيق رفاهيتنا.

قادتنا يا سعد، ليس همهم السلطة، ولا الثروة ولا الجاه. ولهذا تجدهم جزءاً أصيلاً من النسيج الاجتماعي، لا يعيشون في جزر معزولة، كما هو الحال عندكم؛ إذ تجدهم في أفراحنا أول المهنئين، وفي أتراحنا أول المواسين، وفي مرضنا أول الزائرين المطمئنين على صحتنا.
أجل يا سعد، بلداننا مستقرة لأن قادتنا الكرام البررة، آباء لصغارنا وإخوة لكبارنا. وفروا لنا كل شيء، حتى أصبح الغرب الذي يرى نفسه عالماً أول، يحسدنا على ما نحن فيه من نعمة وأمن واستقرار وسلام.

نحن هنا يا سعد في خليج الخير، الأولوية القصوى لدى قادتنا هي للمواطن: تعليمه، صحته، سكنه، طعامه، شرابه، عمله، أمنه وامانه واستقراره واطمئنانه، بل حتى رفاهيته التي يرى حكامنا أنها حق أصيل لشعوبهم، ويعملون جاهدين لتوفيرها لنا على أرقى مستوىً.
نحن هنا في دول الخليج يا سعد، قادة وشعب، ولا أقول شعوباً، لأننا هنا كلنا شعب واحد، كالجسد الواحد، الذي إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر. نحن هنا همنا الأول والأخير تنمية بلداننا وتطويرها والنهوض بها وتحقيق الخيرية التي أمرنا بها ديننا الحنيف؛ فحلم قادتنا تحويل منطقة الشرق الأوسط كلها إلى أوروبا جديدة، وهو حلم ليس ببعيد على أصحاب الهمم العالية، والنفوس الكبيرة والطموح الذي يناهز عنان السماء؛ بينما حلمكم أنتم هنالك شعوباً وحكاماً على حد سواء، لا يتعدى جيوبكم، بل أسمح لي لكي أكون أكثر صراحة: حلمكم يا سعد، لا يتعدى بطونكم و (…)، كل واحد فيكم يسعى ليل نهار جاهداً بالحرام قبل الحلال أن يكون الأكثر أموالاً وأولاداً وحريماً وخدماً وقصوراً ليتباهي أمام الآخرين، لا يهم حتى إن كان ثمن الوصول إلى مثل تلك الغاية الدنيئة ضياع الأوطان كما هو حادث فعلاً اليوم.

بلداننا مستقرة يا سعد بحمد الله وتوفيقه، لأن مفهوم الحياة عندنا ليس مزحة، فمنذ تأسيسها هي مستقرة، وما تزال كما هو واقع الحال، وستظل إلى الأبد بحول الله وقوته، ثم بعزيمة الرجال مستقرة، بل ستزداد استقراراً مع بزوغ كل فجر جديد، كما تزداد تنمية وازدهاراً، لأن بيننا وبينكم بون شاسع في تعريف مفهوم الوطن، مثلما هو بين قادتنا وبين حكامكم من بون شاسع في تعريف مفهوم الحكم والقيادة.

ففي حين يؤكد حكامنا في كل مناسبة، عملاً يسبق القول: (نحن لسنا ملوكاً، بل أصحاب رسالة) يتحداكم حكامكم بكل وقاحة وفجاجة: (السلطة لنا نحن، ومن أرادها ليبارزنا في الشارع). هذا كلام سمعناه أكثر من مرة من معظم حكامكم هنالك يا سعد. وللأسف الشديد، رأينا من يصفق لهم، وينتشي فرحاً عندما يسمع مثل هذا الكلام الساقط، الذي لا يجرؤ عليه حاكم يدرك معنى المسؤولية، ويفهم حديث الراعي والرعية، حتى إن كان فاقداً للوعي. هذا أسلوب بلطجية، ليس أسلوب حاكم مسؤول يحترم نفسه، ناهيك عن احترامه لشعبه وخوفه على كرسيه.

نعم، بلداننا مستقرة يا سعد بحمد الله وتوفيقه، ثم بحكمة قادتنا وعزيمة سواعدنا، لأنه بإمكان أبسط مواطن عندنا هنا في خليج الخير، رفع دعوى ضد الحاكم أو نائبه أو أي فرد من أفراد الأسرة الحاكمة، بصرف النظر عن مكانته وسنِّه؛ فيقف الحاكم نفسه أو من يمثله جنباً إلى جنب مع المواطن العادي البسيط أمام القضاء، وقد يحكم القاضي حسبما أمامه من حيثيات للمواطن ضد الحاكم، فيشكر الحاكم القاضي على أمانته، ويشدّ من أزره ويجزل له العطاء، مؤكداً له ضرورة التمسك بالحق، لا بالألقاب والسلطة والجاه، فحقوق العباد أمانة في ذمَّة الحاكم. هكذا يرى قادتنا الأمر.

هذا ليس حديثاً للاستهلاك يا سعد، إذ يدرك كل مهتم عندنا هنا في دولة الرسالة، أن مواطناً كسب قضية ضد الملك فهد، وهو حاكم البلاد، وآخر كسب قضية أخرى ضد الملك عبد الله يوم كان ولياً للعهد.
هذا ليس حديث خرافة يا سعد، بل الكل يدرك جيداً أن أمراء من الأسرة الحاكمة، قد تم إيداعهم السجون في هذا العهد الزاهر، عهد خادم الحرمين الشريفين، سيدي الوالد المكرم الملك سلمان بن عبد العزيز آل سعود، أشبهنا نحن السعوديون بوالد الجميع المؤسس الملك عبد العزيز آل سعود، خَلْقَاً وخُلْقَاً، وحزماً وعزماً، وحنكة وذكاءً؛ بل تم القصاص ضدّ أحد أفراد الأسرة الحاكمة، ولم يشفع لأي منهم أنه ابن أمير، أو حتى ابن ملك. ليس هذا سراً، بل أمر مشاع يعرفه الجميع، وأظنك تدركه يا سعد.

وبجانب هذا كله يا سعد، حكم القضاء عندنا كثيراً للإخوة الوافدين ضد مواطنيين بمئات آلاف الريالات، دون أن يجرؤ أحد على التدخل لإلغاء الأحكام أو تخفيفها، مهما كانت مكانته.فمثل هذه العدالة التي لا تعرف في الحق لومة لائم، لا تجدها حتى في الغرب، الذي يتشدق دوماً بشعارات العدالة والحرية وغيرها من شعارات فضفاضة، فقد رأينا أكثر من رئيس هنالك يتهرب من الاستحقاقات الضريبية، غير الاعتداءات حتى الأخلاقية منها على بعض المواطنين. فالفيصل عندنا هنا الحق، لا السلطان والجاه والنفوذ.

بلداننا مستقرة يا سعد، لأن قادتنا مشغولون دوماً بالتفكير في كل ما من شأنه ضمان حياة كريمة هانئة سعيدة ممتعة، حافلة بالعمل والإنجاز والإبداع لكل واحد فينا؛ ليس هذا فحسب، بل يعملون جاهدين بالتوازي، لضمان مستقبل أجيالنا القادمة، في حين أن حكامكم مشغولين بالتفكير في توفير كل ما من شأنه تغييبكم وتعذيبكم، من سجون حمراء وأخرى سوداء، وثالثة سرية تحت الأرض، وهدر (90%) من ميزانيات بلدانكم المتواضعة على استيراد أدوات التعذيب. ولهذا عجزوا حتى عن توفير الخبز لشعوبهم اليوم، ناهيك عن التفكير في مستقبل الأجيال القادمة.

بلداننا مستقرة يا سعد، لأن قادتنا يقربون كل صاحب رأي ومشورة، ويأخذون بنصحه إن كان عنده ما يفيد الوطن والمواطن، ويحقق مصلحة عامة فعلاً، بخلاف ما عليه الحال عندكم، فالحاكم هو الوحيد العبقري النابه الناهي الآمر، الذي يفتي في كل شيء دونما علم، أو مراعاة لمصلحة الوطن أو المواطن، طالما أن الأمر يحقق مصلحته هو الشخصية أو ربعه المقربين، ويطيل بقاءه على كرسيه، فليذهب الجميع إلى الجحيم. وللأسف الشديد يا سعد، ذهب كثير من بلدانكم ومعظم شعوبكم، لاسيَّما المساكين البسطاء الذين لا حيلة لهم، إلى الجحيم فعلاً بسبب مثل هذه النظرة القاصرة ممّن كان يفترض أنهم أولياء أمر مسؤولين عن الرعية.هذه حقائق يا سعد، يؤكدها الواقع، وليس اتهامات أو تحاملاً أبداً.

أجل يا سعد، أستطيع أن أحدثك كثيراً جداً عن سر استقرار بلداننا هنا في خليجنا الزاهر الزاخر بالمثل والقيّم النبيلة والأخلاق الفاضلة الكريمة، غير أنني آثرت أن أوجز لك الأمر في مفهوم وحيد شامل: بلداننا مستقرة يا سعد، لأن قادتنا يعتمدون عدالة اجتماعية استثنائية، الضعيف فيها قوي حتى يؤخذ الحق له، والقوي فيها ضعيف حتى يؤخذ الحق منه.
وإلى أن يعرف الحاكم عندكم كيف تورد الإبل يا سعد، أتمنى أن تدركوا جميعاً هنالك، حكاماً ومحكومين، أن الوطن كالسفينة، إن لم يحافظ كل واحد فيها على مقعده، ستغرق وساعتها لن ينجو منها أحد.
أعرفت الآن يا سعد، لماذا بلداننا نحن هنا في خليج الخير مستقرة، بينما تغرق بلدانكم في فوضى عارمة تهدد وجودها؟!.. أتمنى ذلك.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *