يعتقد هذا الفيلسوف العربي الكبير أن النظريات التي نستوردها من الغرب ونصفها بأنها “عالمية” هي في الواقع تخصّ تجربة الإنسان الغربي وتاريخه وتعبّر عن تحيّزاته. ولذا فهو يستنكر أن يفرض المتخصصون في العلوم الإنسانية في العالم العربي هذه النظريات المستوردة ويطبّقونها على الإنسان العربي المسلم وتجربته الحضارية والاجتماعية، وقد يكون هذا، كما يقول المسيري، سبباً رئيساً للأزمات الحضارية المتتالية التي يعيشها العالم العربي والإسلامي لأننا نفكّر في أنفسنا من خلال قوانين الآخر فتغترب عن واقعنا فلا نستطيع اكتشافه ومعرفة قوانينه ولذا نعجز عن تغييره وتحريكه.
الخصوصية التي يدعو إليها المسيري لا تعني عدم الانفتاح على الحضارات الإنسانية الأخرى، بل إن ذلك الانفتاح يدعمها ويكشف إمكانية أن تكون لنا لغتنا الثقافية الحضارية الخاصة. يضرب المسيري مثالا على هذا بالصحراء التي أهملناها رغم أن لها مكانة خاصة في تراثنا، والخط العربي الذي يكاد يختفي بصفته أحد الفنون الجميلة بسبب أنه لا مقابل له ولا نظير في التراث الفني في عالم الغرب.
وحيث أننا هنا نراجع ذكريات المسيري في المملكة وتحديداً في جامعة الملك سعود بالرياض، سنترك بقية المقال مع نايف العنزي، أحد تلامذة المسيري في قسم اللغة الإنجليزية الذي يسرد هذا الموقف الذي حصل له ويتفق مع نظرية المسيري المذكورة أعلاه والتي لم تكن واضحة في أذهاننا في ذلك الوقت:
كنت منذ سنوات الدراسة الثانوية أهتم بتعلّم أنواع الخط العربي وأكتبها، بل وأرسمها، وغالبًا ما كنت أفعل ذلك على كل ورقة تقع بين يدي. تعوّدت أن أكتب على الصفحة الأولى من كل ورقة إجابة “بسم الله الرحمن الرحيم، وبه نستعين” حتى لو كان الاختبار باللغة الانجليزية، وكنت أكتبها بأجمل شكلٍ تعلمته وغالبًا ما كان نوع الخط بالديواني. شاء الله أن كتبتها في ورقة إجابة اختبار نصف الفصل الدراسي لمقرر كنت أدرسه عند د. المسيري -رحمه الله-، وعندما جاء وقت اعلان نتيجة الاختبار قرأ علينا الأسماء والدرجات ولم يقرأ اسمي، وبعد الانتهاء وقبل أن أرفع يدي استئذانًا بالحديث لأسأله عن درجتي، سأل -رحمه الله-: من هو نايف العنزي؟ فرفعت يدي وقلت أنا يا دكتور! وجال في ذهني خلال ثوانٍ بسيطة عدة أمور عن سبب سؤاله وعن عدم ذكر اسمي ضمن أسماء زملائي، فما الذي اقترفته ليجعل المسيري يبحث عني؟
قال -رحمه الله-: أين تعلمت الخط العربي بهذا الشكل؟ فقلت، بعد أن اطمئن قلبي، أنا أمارس الكتابة كهاوٍ يا دكتور وغير مُتقنٍ لفنون الخط العربي الجميلة المتعدّدة. تحدّث بعد ذلك د. المسيري طويلاً وأسهب في المحاضرة عن أهمية إتقان الخط العربي كمطلب للمحافظة على اللغة والثقافة العربية وأنه بالفعل بدأ بتعليم ابنه فنون الخط على يد معلمٍ خطاط. وبالفعل بعد سنة ونصف تقريبًا مررت بمكتبه -رحمه الله- ووجدت عنده ابنه وقال لي هذا ابني الذي علمته فنون الخط العربي، وطلب من ابنه كتابة جملة على السبورة لكي أحكم عليها. مازلت أذكر تلك العبارة التي كتبها ابنه بخط عربي جميل: “لا إله الا الله”.
khaledalawadh @