مفتتح: ((لم أذق لذة وجودة الحياة، إلا عندما أزور المستشفيات، ولم أشعر بنعمة السلامة إلاّ عندما أزور السجون، وسماع ومشاهدة ما يدور في دواخلها من أنين وحنين)) (حكيم).
بداية: في أخريات حياة أمي -رحمها الله-، كانت تعاني من بعض الأمراض المزمنة أهمها (الضغط) وكنت أراجع بها المستشفى من حين لآخر، وأحياناً أحضر لها الطبيب في المنزل، ومع تزايد المرض وفي إحدى زيارات الطبيب لها، رأى أن حالتها تستدعي وجودها في المستشفى بعض الوقت لكنها كانت تُعارض ذلك بشدة، وبعد تداول الأمر مع أخي وبعض المقربين من الأسرة وحرصاً على صحتها ،وافقت على مضض ، وجرى تنويمها في أحد مستشفيات الجيش باعتبار أخي أحد منسوبيه، كان ذلك قبل (15) عاماً تقريباً!
وبتوفيق من الله ومن حسن حظي وإصراري ، كنت المرافق المقيم معها في المستشفى خلال وجودها فيه مفضِّلاً ذلك على كل ارتباطاتي ومشاغلي طمعاً في برها ومؤانستها، وبعد مرور أسبوع على تنويمها ،بشّرنا الطبيب أن حالتها مستقرة، وأنها إن شاء الله في طور التحسن.
ما أطول الليالي على المريض وخاصة إذا كان بعيداً عن أسرته، وإحساسه بدنو أجله، كنت أقترب منها كلما سمعتها تئن، وأحياناً أستدعي الطبيب للإطمئنان فقط ، فيجيبني بأن الأمر طبيعي وحالتها مستقرة.
كنت أغفو في بعض الليالي فاستيقظ على أنينها وحركتها، فأقترب منها وأنظر إلى الأجهزة المراقبة لحالتها والدموع تتساقط على خديّ كحبّات المطر، فتلاحظ ذلك: وتقول: لِمَ تبكي يا بُني؟ فأقول لها في حزن وألم: إنها تنساب يا أمي طواعية ودون إرادة أو تكلُّف، لا تلومي من كنت له أباً وأماً وسكناً وملاذاً بعد الله واليوم أرى الوداع الأخير يرتسم على محياك.
كم كان ارتياحي وسعادتي أن أكون مرافقاً لتلك الأم التي نذرت حياتها في خدمة ورعاية وتربية يتيمين أكبرهما في العاشرة والآخر دون الثانية، فكانت لهما بمثابة الأب والأم، نعم أردت من مرافقتي لها أن أردّ ولو جزء يسير من حقها الكبير علي وأن أمتًع ناظري بمحيّا من تيّمني حبها صغيرا ًوكبيراً،ـ وأن أسترجع بعض ذكرياتي معها وما قدمته لي ولأخي من تضحياتٍ وإيادٍ بيضاء بعد وفاة والدنا -رحمه الله- وأن تكون راضية عنا دنيا وآخرة.
لقد أمضيت إلى جانبها (30) ليلة ، شعرت خلالها أنني أسعد إبن على وجه البسيطة، وفي الليلة الـ (30) من دخولها المستشفى المصادفة لليلة الجمعة ،عاجلها الأجل المحتوم وودعتنا صغاراً وكباراً لإتمام رحلتها الأخيرة ودموعنا تسابق نظراتنا الحزينة لها -رحمها الله -ونسأله كما جمعنا بها في الدنيا ،أن يجمعنا بها في مستقر رحمته إنه سميع مجيب.
خاتمة:
قال أبو العلاء المعرّي في فضل الأم :
العَيشُ ماضٍ فاكرم والديك به الأم أولى باكرامٍ واحسانِ
وَحسبُها الحملُ والارضاعُ تُدمنُهُ أمرانِ بالفضلِ نالا كل إنسانِ
وبالله التوفيق ،،