نعاود الركض مرة أخرى في فكر الفيلسوف المصري عبد الوهاب المسيري ، الذي أمضى أهم أوقاته كأستاذ في جامعة الملك سعود، كما ذكرنا في المقالات السابقة، ونحاول أن نقرأ الموقف الدراماتيكي في قطاع غزة ، الذي يشهد جرائم حرب ، وإبادة ضدّ إخواننا الفلسطينيين ، أمام أعين العالم ، وبالصوت والصورة.
لا شك أن هذا الفيلسوف الكبير، الذي أمضى عمره وهو يقرأ السلوك الصهيوني ، وقدّم مجموعة مؤلفات ضخمة وثرية ،على رأسها مشروعه الموسوعي الكبير الموسوم :”موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية” في ثمانية مجلدات ضخمة ،هو المفكّر الأبرز والأشهر في العالم العربي ،والذي يمكن العودة إليه واستشارة كتبه إذا أراد المرء أن يفهم ما تقوم به هذه الدولة المارقة ، التي أسرفت في إجرامها تحت رعاية الدول الغربية ، وعلى رأسها الراعي الرسمي له وهي الولايات المتحدة الأمريكية.
لم نكن نعرف، كطلاب عنده إبّان تدريسه لنا، أن المصطلحات التي كان يردّدها في محاضراته المثيرة، مثل هيرتزل وبيريز والجماعات الوظيفية، هي في الواقع نتاج العمل ، الذي كان يعمل عليه وقتها ، وظهر لاحقاً ، كأفضل ما كتبه أي مفكّر، عربي أو عالمي، عن هذا الكيان السرطاني الاستعماري الوظيفي الذي ظهر في قلب العالم العربي بعد أن زرعه الاستعمار الغربي.
القراءة التي يقدّمها المسيري للصهيونية واليهودية ، عميقة ومثيرة إلى الدرجة التي يمكن فيها التنبؤ بالسلوك المتوقع لهذا الكيان الاستيطاني.
ولفهم ما يحدث الآن في غزة ، عندما تمكّن الفلسطينيون خلال يوم واحد فقط ، من زلزلة هذا الكيان ، وإنهاء فكرة الإحساس بالأمن لدى المستوطن الصهيوني إلى الأبد.
يقول المسيري أن هذه الحروب المستمرة التي يشنّها الصهاينة على أهل هذه الأرض من الفلسطينيين ، لم تأت بالسلام ولا بالنصر، بل إن الإسرائيليين وصلوا إلى ما يمكن تسميته :”نقطة الذروة”، أي أنهم وصلوا لأعلى نقاط استخدام العنف والقوة دون جدوى.
يبدو أن الحرب الدائرة الآن في غزة ، هي نقطة الذروة التي تحدّث عنها المسيري ، فقد استخدم الصهاينة كل أنواع العنف دون أن يلقي المقاوم الفلسطيني سلاحه أو يستسلم ، رغم سقوط آلاف الضحايا، ورغم هذا الدمار الهائل لقطاع غزة.
يقول المسيري إن الدعاية الصهيونية تؤكد دائما أن اليهود هم الضحية الأزلية الدائمة ، وأن إسرائيل تمارس حقّها في الدفاع عن النفس ضدّ مجموعة من العرب الكارهين لها. وقد صدق المسيري في هذه القراءة إذ أن الدعاية الصهيونية ومعها الإعلام الأمريكي البريطاني مازالت تردِّد أُسطوانة السابع من أكتوبر ، وكأنه بداية الصراع مع العرب ، ولا يتحدث أبداً عن الدمار الشامل ،وجرائم الإبادة للبشر، والحجر في غزة في التسعين يوماً التي تلت ذلك اليوم.
يقول المسيري، الذي توفي في 2008، إن من الآليات المراوغة للخطاب الصهيوني ،هي تجاهل الأصول التاريخية للظاهرة ،والسياق التاريخي ، فسبب الصراع ، هو كُره العرب لليهود، وأن المقاومة (أي الإرهاب في المصطلح الصهيوني)، هي رفض العرب للآخر، وهم يستهدفون بذلك تحويل الأنظار عن سبب الصراع الحقيقي، وهو الاحتلال الصهيوني.
khaledalawadh @