تحدّثنا الأسبوع الماضي في هذا المكان عن تاجرين كبيرين في التقنية، هما إيلون ماسك وبيل غيتس، وكيف أنهما لا يتورّعان عن الحديث في التربية والتعليم رغم أن المجال الذي انخرطا فيه هو التقنية وشركات الحاسب الآلي. تخلّى ماسك عن دراساته العليا، ولم يكمل بيل غيتس دراسته الجامعية، لكن هذا لم يمنعهما من إصدار الفتاوى التربوية في الكيفية التي يمكن أن يتعلّم بها الإنسان، وما هي الطرق الفعّالة التي يجب أن تسلكها المدرسة في سبيل تقديم الخدمة التربوية للأطفال. المشكلة لم تقف عند هذا الحد، بل تتعداه إلى وجود من يروّج أفكارهما- كما لو كانا عالمين في التربية وعلم النفس، ولا غرابة في ذلك إذا عرفنا أن الأول هو صاحب شركة تويتر وهي أكبر منصة في شبكات التواصل الاجتماعي ذات التأثير الكبير على الرأي العام، والثاني اشتهر بتصريحاته ونصائحه التربوية بعد كل دولار يقتطعه من ثروته الضخمة ليتبرّع به.
وقد تطوّر الأمر كثيراً، خاصة بعد أزمة كوفيد 19 وأصبح التعليم رهن ما ينتجه هذان التاجران وغيرهما من دهاقنة التقنية والاقتصاد، من أمثال جيف بيزوس، على سبيل المثال لا الحصر، من برامج وتطبيقات تقنية ومتاجر إلكترونية حوّلت نظم التعليم بشكل جذري وتكاد تقترب أكثر من أي وقت مضى لاغتيال المعلّم؛ بصفته التقليدية، وربما قريباً إلغاء الدور الذي تقوم به المدرسة التي يعرفها الناس.
هذا التأثير التقني امتد إلى مجالات أخرى أيضاً فزادت البطالة وتراجعت التفاعلات الاجتماعية الحية بين الناس وتحوّلت إلى حياة افتراضية تبدأ وتنتهي بضغطة زر، كما أصبحنا نرى إمكانية أن تقوم التقنية، مثل تشات جي بي تي، بكتابة قصيدة شعر أو رسم لوحة تشكيلية أو رواية أدبية دون أن يكون للمتلقّي القدرة على الحكم على هذا النوع من الإنتاج الرديء الجاف الخالي من أي ثراء ورمزية وحياة؛ بل تتفاجأ بردة فعل هؤلاء المتلقّين من البشر الذين يحتفلون بدهشة كبيرة ومفارقة ساخرة بهذا التقدّم المطّرد للآلة.
لم تؤثّر التقنية على العلوم الإنسانية، بل يمكن القول إنها تزاحم الآن العلوم الطبيعية الأخرى كالفيزياء التي أوصلتها إلى هذا المستوى من التأثير على حياة الناس. ويمكن التحقّق من هذا الأمر بزيارة أقسام الفيزياء في كليات العلوم في الجامعات لتعرف أن هذا العلم الذي كان يتربّع على قمة العلوم الطبيعية إلى الدرجة التي كان يقول فيها العالم الفيزيائي رذرفورد: ” كل العلوم إما أن تكون فيزياء أو جمعاً للطوابع” قد فقد بريقه الآن نوعاً ما بعد أن أدّى دوره وسلّم شارة القيادة إلى روبوت غبي هو أبعد ما يكون عن الذكاء.
لا شك أن الحاجة الملحّة للحلول التي يمكن أن تقدّمها العلوم الإنسانية في كبح جماح هذه الخطوات المتسارعة نحو التقدم اللانهائي تفرض نفسها لحماية الإنسان والتدخل في ضبط عملية التقدم وربطها بميزان الحق، والعدل والسلام والجمال.
khaledalawadh@