في كثير من حياتنا اليومية نردد بوعي أو بدون وعي أن ” صاحب العقل ” في شقاء، ولن نخطئ سماع أحدهم يردد ” كبر دماغك ” و” ريح عقلك” وكلها عبارات تصنع علاقات طردية، أنه كلما زاد الفكر والتفكر زاد الشقاء وعظمت التعاسة والعكس صحيح!
هذه الثقافة التي تنبذ إعمال الفكر في لحظة ما بوصفه سببا لمزيد من التعاسة لم تغب عن كثير مما يمكن تسميتهم حكماء القوم وعقلائهم، بل وحتى شعرائهم المميزين فهذا أبو الطيب المتنبي يؤكد جمال الجهل ونجاعته كأداة لاستجلاب الراحة فيقول:
ذو العقل يشقى في النعيم بعقله
وأخو الجهاللة في الشقاوة ينعم
بيد أن المتداوين بالفلسفة لهم رأي يختلف عن رأي شعراء القوم وحكمائهم، فالفارابي يرى أن السعادة يتم الحصول عليها من خلال إعمال العقل الفلسفي، ومثله آبيقور في رسائله وأرسطو ومونتين ومواطنه الفرنسي الآن دو بوتون كلهم يرون أن الإشكالية ليست في إعمال العقل بقدر ماهي الاستسلام لسطوة المشاعر والتحول الى جانب القدر السيئ الذي يرتبط بلغتنا ومنطقنا ونظرتنا للأحداث من حولنا.
وحول هذه الدلالة يؤكد المفكر والفيلسوف المغربي سعيد ناشيد أن الأقدار السيئة التي تعشعش في عقولنا وتجلب الحظ السيئ قد تأتي بأمهات الانفراج للأزمات مستشهدًا بقصة الفيلسوف الروسي ذائع الصيت دوستويفسكي، الذي صدر في حقه حكم بالإعدام وقبل تنفيذه بدقائق استبدل بقرار النفي إلى سيبيريا في سجن “منزل الأموات” الذي قضى فيه مع المحكوم عليهم بالإعدام أنضج أيامه؛ ليخرج لنا إرثًا فلسفيًا عالميًا ملهمًا مازال الناس يحتفون به في كل مكان!
وفي استفتاء بسيط وضعته على حسابي في تويتر، سألت المهتمين عن” إذا ما كان العقل شقاء أم سعادة”؟ لتأتي الإجابات متفاوتة بين الإقرار والنفي والتحفظ، بيد أنها مازالت في المجمل مائلة إلى الإرث القائم على أن أخا الجهالة مازال أوفر حظًا بالحياة الهانئة والسعيدة من المتبصر والمتفكر وهو الأمر الذي يؤكد على أن الفلسفة مازالت غير حاضرة في المشهد لتقديم ” ترياق ” مقنع ضد الكثير من الموروثات؛ ومنها ما يتعلق بالحياة والمعيشة، والنظر إلى انفعالاتنا وقراراتنا وغيرها كثير.
وفي تقديري أن السبب ليس قصور الفلسفة ذاتها بقدر ماهو قصورها في الحضور إلى المشهد الحياتي اليومي كوسيلة استشفاء روحي لايتعارض مع القيم المعتبرة للمجتمعات، وقصورها الإعلامي في التحرش بالكتّاب والمؤلفين ليقدموها بلغة بسيطة يفهمها ويتناقلها الناس، وقصورها كذلك في تقديم دلالات ومعانٍ مقنعة على أنها ليست بديلا لما يؤمن به الناس ، وحين تفعل كل هذا فسيتحول الناس من تذكّر بيت المتنبي المتشائم أعلاه إلى تذكر بيته المبهج في ذات السياق القائل:
لكل داء دواء يستطب به
إلا الحماقة أعيت من يداويها!
linguist_abdul@yahoo.com