لقد شاهدتها صدفة، ووجدتها في المكان العالي، ممتدة بين السواد، وليتني لم أكن ألقاها، وأجدها وقد سكنت في هذا المكان الذي يصعب الوصول إليه لغيرها. فعندها قلت في نفسي، آه على آه يا ليتني لم أشاهدها فلقد أسرتني وأقلقتني وحدت من تحركاتي وآمالي ومغرياتي، ودق قلبي خوفًا منها رغم بياضها واستغربت وجودها في هذا المكان، وهي سافرة وخارجة من خمارها الأسود بهدوء وبدون خوف أو حياء أو حس و خبر، وسابق إنذار؛ لتبقى سافرة وشامخة كعلامة فارقة ومنعطف خطير في حياتي الخاصة والعامة.
وفي هذه الأثناء، والعين تترقب وتتأمل هذه البيضاء الطويلة ذات الجسم النحيل التي ارتعدت ورجفت بمشاهدها جميع الحواس فحاولت أن أتماسك وأهدئ من روعي وخوفي؛ لكي أتمكن من التخلص منها سريعا، وأصل إليها بيدي لأنزلها أرضًا من هذا المكان العالي؛ خوفا أن يرى هذه البيضاء السافرة أحد ، خاصة زوجتي وأولادي فتتغير نظرتهم لي.. وبعد عدة محاولات تمكنت منها بيدي وأمسكت بها، وأنزلتها من مكانها بكل قوة، ووضعت تلك البيضاء بين يدى، وإذا بها حوراء طويلة المقام، فسألتها لماذا خرجت من خمارك الأسود وخرجت سافرة للعيان، فقالت: أنا أحبك وأنت في ذا العمر من الحياة، وكذلك أحب كل من في مثل عمرك فلاتحزن ولاتقلق ولاتخف مني، فأنا سألبسك لباس الوقار وسأكون لك صديقا صادقا ونذيرا مبينا مستمرا، وسأشعل رأسك ووجهك بي وبأخواتي؛ مهما حاولت، فلن أخرج منك وسأكون معك طول العمر، وسيشاهدني الجميع وأنا متعلقة فيك شاء من شاء وأبى من أبى؛ مهما أخفيتني فأنا هادية المخطئين والنذير المرتقب حدوثه. فعند ذلك أدركت أن لا سبيل ولا مناص من الهروب من هذه البيضاء القادمة بقوة والمبادرة بتصدرها وجهي؛ رغم توجسي منها ومحاولة إخفائها بكل الوسائل الممكنة، لكنها للأسف سافرة لاترضى بغير ذلك بديلا فكلما أخفيتها في مكان ظهرت في مكان آخر؛ حتى أتعبتني وخارت معها كل قواي وطموحي وتوهجي. وأنا أشاهدها لتبدل الحال من حال إلى حال، ولتكون نقطة بيضاء فاصلةٍ في حياتي وبداية لمرحلة جديدة من العمر ورسالة تحمل في طياتها الكثيرَ والكثيرَ من المثيرات والآمال والآلام، والذكريات والأمنيات، والمخاوف والمسرات، والرغبة والرهبة، والفرح والحزن، والمرض والغضب مما لا حد له. فهي الحقيقة الواضحة التي رضينا بها مكرهين وغيرت كنيتنا واسم المنادى لنا بياعم وياسيدي وياشيخ وياشايب وياعجوز وصار وأصبح كل من يلقانا مباشرة يتجه إلى تلك البيضاء ليقبلها وأنا مطأطئ له الرأس راض مرضيا بما فعلت بي هذه البيضاء السافرة مع سنوات العمر والمشيب .
وأخيرا من لم يشب اليوم يشيب غدا، فهو قدر لابد من ظهوره مهما طال العمر. فوجود البيضاء في حياتنا سنة مؤكدة بالنذير والوقار والعجز.
وقفة .
يقول الشاعر جرير:
أتصحو أم فؤادك غير صاح
عشية هم صحبك بالرواح؟
تقول العاذلات علاك شيب
أهذا الشيب يمنعني مراحي؟
lewefe@hotmail.com