رؤية :خلف سرحان القرشي
استكمل معكم أعزائي القراء اليوم قراءتي لقصيدة (قصَّت ظفايرها) للشاعر الأمير بدر بن عبد المحسن.وكنا قد توقفنا في الجزء الأول من هذه القراءة عند استخدام الشاعر الموفق للفعل الماضي (قصَّت)، لحدث استغرق برهة من الوقت وانتهى؛ وهو قص الشعر، بينما استخدم الفعل المضارع (تقرأ) ليخبرنا أن القراءة تستغرق من تلك المرأة وقتا طويلا، وأن فعل القراءة يتكرر منها بصفة دورية، مما يدل أنه عادة وهواية وضرورة بالنسبة لها، وأنها بهذا تُعَدُّ من الطبقة المثقفة.وفي القصيدة نجد توظيف الشاعر الحِرَّفِي، واستخدامه الذكي للفعل الماضي تارة، والفعل المضارع تارة أخرى لم يقتصر على فعلي: (قصَّت) و(تقرأ) بل تجاوزه لأفعال أخرى.
فعندما يتحدث عن معرفته بتلك المرأة نجده يستخدم الفعل المضارع (أَعْرِف)، ولم يقل (عَرَفْتُ)، مع أن معرفة إنسان بإنسان تحدث مرة واحدة ووحيدة فقط، وينتهي الأمر. ولكن الشاعر يوصل لنا رسالة مفادها أن المعرفة تلك دائمة ومستمرة، نافذة ومؤثرة، شاغلة له ومشغلة، متجددة وحية. ونفس الأمر يمكن أن يقال عن استخدام الشاعر للفعل (أحفظ):(وأحفظ أنا حجار الطريق اللي يودي لبيتها)! فعملية (الحفظ) هنا ستبقى خالدة بمرور الأيام، وهي متكررة ومكررة؛ لذا جاء التعبير عنها بـ (المضارع)، وليس بـ (الماضي)! مفردة (أدري) تشي بأن بعض هذه التفاصيل قد وصلت الشاعر بنفس الطريقة التي وصله به خبر قصها لظفايرها، أما البعض الآخر فهو استنتاج من الشاعر نفسه عطفا على ما يعرف عن طبيعة حياة تلك الطبقة من الناس.
وقد انتقد بعضهم الشاعر في تقديمه عبارة (قصت ظفايرها) على قوله (البارحة جاني خبر)! وقالوا كان من الأفضل – على حد قولهم – أن يقول الشاعر:(البارحة جاني خبر …. قصت ظفايرها)! ونسي هؤلاء أو تناسوا أن التقديم عادة للأكثر أهمية، فمسألة مجيء الخبر للشاعر وغيره هنا تحصيل حاصل، ولكن المهم هو الحدث نفسه (قص الظفاير)! لذا يستحق أن تستفتح به القصيدة، والعارفون بفنون اللغة العربية يعلمون الكثير عن التقديم والتأخير، وأظن استهلال الشاعر قصيدته بهذا استهلالا موفقا لأنه استهلال شعري وشاعري بالذي هو خير.ومسألة أن خبر قصّها لظفائرها، وصل الشاعر ليلا ” البارحة”، ينبئ عن أهمية أخبار هذه المرأة، فناقلو الخبر لم ينتظروا عليه حتى مجيء الصباح، مثله مثل سائر الأخبار التي تأتي الناس صباحا مع صدور الصحف! إنه بمثابة الـــخبر الـــ (عاجل)! الذي لا يحتمل التأجيل أو التأخير.ولكن لماذا قصَّت المرأة ظفائرها؟ قد يذهب بنا الخيال قدما لنرجح أن شعرها طويل، -فلو أنه قصير لما كانت له ظفائر تُقَصٌّ، ولما كان له أكثر من ظفيرة.
والأمر يحتمل أيضا أن شعرها يطول بسرعة، والشعر الطويل من مؤشرات الأنوثة، ومن علامات الصحة والعافية، وهو نتيجة للتغذية الجيدة، وراحة الجسم والنفس، وكل ذلك يؤكد هوية تلك المرأة، ويبين أنها مترفة جدا، وحياتها حياة نعيم ووفرة، الأمر الذي يعزز ما يريد الشاعر ضمنا توصيله للملتقي عن هويتها.ولا ننسى أن الشعر الطويل أيضا من معايير جمال المرأة، ولا عبرة بما تفعله اليوم كثير من النساء العاملات من قص وتقصير لشعورهن لِيَكُنَّ أكثر عملية، وأيسر حركة، فالمرأة التي نحن بصددها ليست من هؤلاء البتة.قال خالد بن صفوان: “الشعر الأسود بُرْنس الجمال”، و(بُرْنس) تعني: كل ثوب رأسه منه. وورد عن عائشة رضي الله عنها: “أنها قالت: ” سبحان من زين الرجال باللحى والنساء بالذوائب”.يقول المتنبي في الشعر الطويل:
نَشَرَتْ ثَلاثَ ذَوائِبٍ من شَعْرِها
في لَيْلَةٍ فَأرَتْ لَيَاليَ أرْبَعَا
واستَقْبَلَتْ قَمَرَ السّماءِ بوَجْهِها
فأرَتْنيَ القَمَرَينِ في وقْتٍ مَعَا
وأظنها تقص ضفاير شعرها لينمو أكثر فيما بعد، ويصبح أكثر حيوية، وجمالا. وقد تكون قصت شعرها نوعا من التغيير، وللرغبة في (لوك /Look جديد) كما يقال.
وتتواصل المعطيات الدلالية في القصيدة لتؤكد لنا أن تلك المرأة مختلفة وفريدة، فالطريق إلى بيتها يعرفه الشاعر جيدا بل ويحفظ كل حجر فيه، ومردُّ ذلك قد يكون كثرة مروره به ذهابا وإيابا، وكون هذا الطريق ممتلئا بالحجارة إشارة خفية لأن يكون بيتها / قصرها في ريف أو ضاحية أو في أطراف المدينة، والطريق إليه ليس معبدًا، بل به أحجار، تلك الأحجار تتماهى مع الأصالة في المشهد الكلي (خاتم العقيق / الكتاب العتيق).ومن يدري فلعها هي من أَمَرَ ووَجَّهَ ببقاء ذلك الطريق غير معبد؛ لأسبابها الخاصة بها؛ ومنها حبها إبقاء الأشياء على فطرتها الأولى، وطبيعتها البكر؟الطريق هذا يبدو أنه تَعِبَّ من مرور الشاعر به مرارا وتكرارا، جيئة وذهابا! ولعله نفس الطريق الذي وصفه نفس الشاعر في قصيدة أخرى له بقوله:
” نام الطريق يا عيوني أنا
نام الطريق وسهرت أنا
يا خطوه عذبها البعاد
يا دمعه ذوبها السهاد
تَعِبَّ الطريق ما تعبت أنا!”
وفي يقيني أن ” الشَعَر الطويل / الخاتم العقيق / كتاب الشعر العتيق / طريق البيت الممتلئ بالحجارة “، كلها عناصر وسمات توحي لنا بتقليدية تلك المرأة.بعد أن استهل الشاعر قصيدته بالإشارة لتلك المعطيات أعلاه، ينتظر القارئ والمتلقي من الشاعر مزيدا من التفاصيل عن هذه المرأة المدهشة. إنه يتوقع وبشكل تلقائي أنه سيحدثه – شأنه شأن كل شاعر يتغزل -عن سمات شكل حبيبته؛ وجهها، عينيها؛ خديها، مبسمها، قوامها ونحو ذلك! وقد يتبادر لذهن المتلقي أن الشاعر لن يختلف عن سلفه “يزيد بن معاوية” الذي قال ذات زمن واصفًا عيني وخدي وشفتي وأسنان عشيقته:وأمطرتْ لُؤلؤاً من نرجسٍ وسقتْ ورداً، وعضتْ على العِنابِ بِالبردِ لكنه يخيب ظنه تماما، ويباغته بقوله:
لا شفتها ولا جيتها…….
يا للعجب؟ ويا للغرابة؟ ويا للنقلة التي أحدثتها الشاعر في ذهن ومشاعر المتلقي؟ لا شك أن المتلقي هنا سينبت في ذهنه سؤال يفضي إلى مزيد من الأسئلة:إذا … كيف ومن أين عَلِمَ أنَّها قصّت ظفايرها، وتقرأ في الكتاب العتيق، وتلبس الخاتم العقيق، ولماذا يا ترى يحفظ حجار الطريق المؤدي لبيتها؟ لا يدع الشاعر المتلقي يحتار كثيرا، ويجيبه:
لا شفتها ولا جيتها .
قابلتها صدفه .. على شفاه الصَحَاب ..
همسة أمل حسيتها
ودمعة عذاب ..
فهو قد قابلها، ورآها رأي العين؛ عين القلب، ولكن فقط على شفاه أصحابه وصفا وحديثا، وهذا يعزز أن هذه المرأة استأثرت، ومازالت تستأثر باهتمام الناس.فمن خلال حديث الناس عنها يحس ويشعر الشاعر إنها همسة أمل؛ قد يحظى بها، ولكنه احتمال ضئيل؛ مجرد همسة ليس إلا! وتحضر المفارقة في أن الشاعر يحسها أيضا في الوقت نفسه (دمعة عذاب)؛ تلك الدمعة التي قد تولد من بعدها الآف الدموع؛ يأسا من نيل وصلها، وانقطاع رجاء من الالتقاء بها.وكل هذا يعزز أنها عزيزة المنال، بعيدة المبتغى لأنها امرأة استثنائية.
والشاعر بهذا قد يصنف من الشعراء العذريين.ورغم معرفة الشاعر التامة بوضع تلك المرأة، وبعده عنه، ألا إنها غدت هَمَّ الشاعر، وشغله الشاغل، ووقع في المحظور؛ حبها، ولم يعد معنيا إلا بها وبأخبارها، وقضية كونها بعيدة وصلًا عنه، وتواصلًا معه وبه -لسبب أو لآخر -أمر لم يعد مهمًا أمام سلطة عشقها عليه؛ ذلك العشق الآتي من حديث الناس عنها، ألم يقل الشاعر العربي القديم؛ بشار بن برد:
يا قَومُ أُذْني لِبَعضِ الحَيِّ عاشِقَةٌ
وَالأُذنُ تَعشَقُ قَبلَ العَينِ أَحيانا
قالوا بِمَن لا تَرى تَهذي فَقُلتُ لَهُم
الأُذنُ كَالعَينِ تُؤتي القَلبَ ما كانا!
وشاعرنا البدر عشقت أذنه المرأة بعد أن سمع عنها من أصحابه وغيرهم، رغم أنه لم يرها، ولم يسمع منها مباشرة منها، كما هو حال بشار بن برد الذي كان ضريرا، لكن أذنه سمعت من حبيبته شيئا، فوقع في غرامها. وكأني بعمى بشار بن برد، هنا يأتي مكافئا وموازيا للبعد النفسي / المادي / المكاني / المعنوي بين الشاعر وبين تلك المرأة.(عمى بشار) و (بُعْدُ حبيبة البدر) كلاهما حائل ومانع!
وصارت هي الخبر الجديد ..
وعلومها همي الوحيد
وش عاد .. لو كانت بعيد ..
بين الحروف حبيتها!
ويختتم البدر قصيدته بنقلة في توجيه الكلام إلى حبيبته مستخدما النداء وضمير المخاطب، بعد أن كان يستعمل ضمير الغائب، وهذه النقلة مُوَظَفَةٌ جيدا، لخدمة حالة المعاناة القاسية التي يعيشها الشاعر بين بعد هذه المرأة عنه، وبين عشقه لها/
حبيبتي .. يا حلم ..
ياللي اعرفك اسم ..
وجهٍ تصوره الحروف .. واتخيله ..
نجم ٍ أحس إنه قريب .. ما اوصله ..
أنتي اللي اعرفه .. زين ..
واللي اجهله أنتي ..
فهل تكون حقا له حبيبة دون سواه! يا للحلم لو يتحقق!ويؤكد لها بأنه يعرفها تمام المعرفة اسما و/أو كينونة.في الأول أكَدَّ الشاعر ذلك للمتلقي، وهنا يؤكدُّه لها هي. وهذان التأكيدان ترسيخ وتعزيز، تقوية وتعميق للرسالة المراد توصيلها.نعود للحديث عن (وجهها)؟ هل عَرَفَهُ الشاعر أو يعرفه؟ والوجه كما نعلم هو قِبْلَةُ الأنظار، وفيه من أسرار الجمال وسحره ما فيه.”وجهٍ تصوره الحروف .. واتخيله “..نعم. إنه يعرفه معرفة من رأه رأي العين، وأكثر. فكيف ذلك؟ إن رؤية الشاعر لوجه حبيبته أتت وتحققت من جانبين، أولهما: من حديث الناس عنها، وثانيهما: مما نسجه وينسجه عليه من عوالم تخيلاته له: “واتخيله”.وأحاديث الناس عادة ما تتسم بالمبالغة ولا سيما عندما تنتقل مشافهة ورواية. ولهذا قال الشاعر العباسي؛ الشريف الرضي:
وهمْ نَقَلُوا عَنّي الذي لمْ أفُهْ بهِ
و ما آفة الاخبار الا رواتها
أمَّا الخيال فيكفيه مبالغة كونه (خيالا)!
لذا فالشاعر وقع في غرام حبيبة؛ وجهها لا يشبه أي وجه. وجه حُمِلَ أوزارا من مبالغات القوم عندما تحدثوا ويتحدثون عنه، كما أنه مكتنز بتصورات من خيال الشاعر، وكل ذلك جعل منه نمطًا من الوجوه فريدًا. وقد يكون من المناسب هنا أن نستحضر الحكاية التراثية الطريفة التالية/
” دخلت بُثينة على الخليفة عبد الملك بن مروان/فقال لها: أنت بُثَيْنَةُ جميل؟ قالت: نعم يا أمير المؤمنين! قال: ما الّذي رأى فيك (جميل) حتى لَـهِج بذكرك من بين نساء العالمين؟ قالت: الذي رأى الناسُ فيك فجعلوك خليفتهم.
فضحك حتى بدت نواجذه.
حبيبتي .. يا حلم ..
ياللي اعرفك اسم ..
وجهٍ تصوره الحروف .. واتخيله ..
يؤكد الشاعر في آخر مقطع في قصيدته على المعنى الرئيس وهو قرب هذه الحبيبة منه سيرةً وسماعًا وذِكْرًا، وبُعْدَهَا عنه لدرجة أنه لم يرها، ولم يأتها قط، فهو يعرفها تمامًا من جهة، ويجهلها من جهة أخرى، وباعتبار آخر. ويشبهها بالنجم يحسبه الناظر إليه قريبًا لا سيما في ليالي الصيف وسط الصَّحراء، ولكنه بعيد المنال:
نجم ٍ أحس إنه قريب .. ما اوصله ..
أنتي اللي اعرفه .. زين ..
واللي اجهله أنتي ..
حبيبتي .. وياليتها ..
أعرفها زين وانا .. لا شفتها ولا جيتها ..
مفارقة لافتة نجدها في قول الشاعر: (حبيبتي وياليتها)! نلاحظ أن الشاعر استخدم كلمة (حبيبتي) (مُبْتَدًأ)، ولكنه قبل أن يأتي بخبر لهذا المبتدأ، يتوقف مستدركا، وكأني به يتذكر فجأة أنها (حبيبته) باعتبار حبه لها فقط، أي من جهته، ولكنها ليست حبيبته باعتبار آخر؛ وأعني به موافقتها أو مباركتها أو إقرارها بتلك المحبة، وهو الأمر الذي يتوق إليه الشاعر ويتمناه.
هي حبيبته؛ أمل ينتظر تجليه واقعا، وأمنية يرجو نيلهاوما أتعس الإنسان، وما أشد بؤسه عندما تكون سعادته بيد شخص آخر إن شاء جاد بها عليه، وإن شاء حرمه إياها!لذا نجده يقول: ( …. ويا ليتها)! أي (ليتها فعلا تكون حبيبتي)، إنه يحبها حتى الثمالة، ولكنها ” لا تقر له بذاكا”.
ولعل الشاعر قصد بعبارة / جملة (ياليتها + الجزء المحذوف والمقدر بــ ” تكون حبيبتي” هو الخبر للمبتدأ (حبيبتي). وقد تكون تلك العبارة / الجملة اعتراضية لا محل لها من الإعراب بالنسبة للشاعر، ويصبح الخبر قوله (أعرفها زين ….)ويبدو أن الشاعر لم يعد معنيا أيضا بالخبر – في اللغة خطابا أو كتابا-، متى جاء، وكيف جاء! بعد أن شُغِلَ بأخبار حبيبته عما عداها من أخبار عالمية أو محلية أو أقليمية أو شخصية.
خارطة العالم بأسره، وما يحدث فيها لم تعد تعني لشاعرنا شيئا لا من قريب ولا من ببعيد!ألم يقل: (صارت هي الخبر الجديد وعلومها همي الوحيد)؟ إن المفارقة التي أشرت إليها آنفا في دلالة قول الشاعر (حبيبتي، وياليتها) مفارقة ثرية تضاف لمفارقات أخرى وردت في القصيدة مبنى و/أو معنى ومنها (أعرفه / أجهله)، (قريب / ما أوصله)، (همسة أمل / دمعة عذاب) و (واقع / حلم).وأحسب أن هذه المفارقات زادت النص بهاء وروعة، ومنحته قوة وتأثيرا.ختاما (قصت ظفايرها) قصيدة متفردة بدأت بجملة فعلية بسيطة مكونة من كلمتين فقط تصف فعلا عاديا؛ (قص الظفاير)، غير أن هذه القصيدة مضت قدما بسلاسة في اللغة، وعمق في الصورة لتمنح متلقيها في النهاية جدائل طويلة – يعز قَصُّها-من الإبداع؛ قلمَّا تجود به قصيدة، أو يأتي بمثله شاعر! وأرجو أن تكون هذه القراءة المتواضعة ساهمت في تجلية شيء ولو يسير من عوالم إبداع البدر وأسراره.