بعد رحلة طويلة محملة بالأوجاع استمرت قرابة شهر عدت أخيرا إلى منزلى، حيث الدفء والسكينة، ذهبت إلى غرفتي لأستريح قليلا بعد رحلة كنت أظن ألا مناص للعودة منها
فى المساء بعد انصراف الجميع من حولي، وقفت أمام مرآتي لأشاهد ما حل بي
بالرغم من كل الجروح الظاهرة بجسدي إلا أنني لم ألحظ أي شيء سوى دمعة حبيسة داخل عيني جعلتني أنظر لنفسي وأتساءل:
هل كان من الأفضل لي أن أنتحر بدلا من أن أعيش فى بوتقة من العبث والحزن والألم والضياع؟
أم كان خيرا لي أن أعيش وسط أشخاص لا أشعر بالانتماء إليهم فى زمن لم يعد لقصائد الشعر بيت؟
لكن ما الجدوى إذا!
أذكر جيدا أنني فى تلك الفترة، كانت رائحة الموت مألوفة جدا بالنسبة لى، لكن لأسباب عدة وجدت نفسى للحظة واحدة من الجبناء الذين ذكرهم إرنست همينغوى فى كتابه «وداع للسلاح»
عدت بالذاكرة قليلا للوراء قبل الغرفة البيضاء فوجدت المشهد حولى ما أكثر أبطاله…
ما أكثر الأحداث وما أندر الأفعال، لكنها بقدر ما كانت مؤلمة بقدر ما كانت ملهمة
مؤلمة من حيث المعاناة، ملهمة من حيث إسترجاع الذاكرة وقراءة مراحلها وشريط الحياة الذى أقيم فيه البشر من القريب إلى البعيد.
تفاصيل وأشخاص كثيرة أستعيدها، قد أكون أنا من أخطأت فى حقهم وقد يكونون هم من أخطأوا فى حقى، وأشخاص لم تكن علاقتى معهم بالشكل الذى يليق بهم من الأساس!
حتى أسرتى لم أكن أعرف كيف كنت أتعامل معهم وكيف كانوا يتعاملون معى، وهل كنت سيئة أم حسنة ؟!
هل كان الناس حولى أشرار أم ملائكة؟ وهل كان الخير بداخلى أقوى أم الشر؟ كثيرا من الأسئلة وقليلا من الأجوبة.
لقد تذكرتهم جميعا واحدا تلو الآخر لكننى فجأة، وجدت نفسى لا أجد أى أحد منهم أمامى يستحق أن أتذكره فى أولى خطواتى نحو تلك الغرفة التى تألمت كثيرا بها وخفق قلبى رعباً ووحدة دون أن يعلم ما ينتظره بالداخل.
لم أعتاب ولن أشكر أحدا، بالرغم من أن كان هناك من يستحق الشكر لكنني لم ألتفت إليه، وآخر أستحق العتاب لكنني فضلت الابتعاد ورحلت، وهناك من استحق أن يكون بعيدا كل البعد عن المشهد منذ بدايته حتى ولو كان جزءا من الآلام التى أعيشها الآن.
وهناك من تمنيت كل لحظة لو أراه مرة أخرى لكي أعترف له بأنني قد اشتقت إليه كثيرا
وبالنهاية آخرون كلما نظرت إلى أعينهم شعرت بخيبة أمل كبيرة تجاه تجاهلى للوقت الذى مر دون أن يكونوا معى بالرغم من أنهم كانوا إلى جوارى طوال الوقت دون أن ألحظهم لأننى كنت منغمسة داخل أحزانى حد الجمود.
مع مرور الأيام.. أدركت أننى لست أكثر من مجرد رقم فى هذه الدنيا.
فأنا قد أصبحت مهيأة لاستقبال الموت لسبب بسيط، وهو أننى قد بدأت مع مرور الوقت اتأكد بأننى لم أكن أول الأموات ولن أكون آخرهم، وبالتالي أصبحت هذه القناعة تعطينى طمأنينة أكثر بأن تجربة الآخرين لا تقل أهمية عن تجربتي.
نختلف فقط بأن لكل واحد منا طريقا يمشيه، لكل واحد منا دافع، لكل واحد منا قضية، لكل واحد منا تجربة.
لكننا بالنهاية نموت جميعا موتة واحدة ونترك خلفنا قضايانا، نموت ونترك أحزانا، نموت ونترك حبا، نموت ونترك حقدا..
فياليتنا قبل الرحيل نستطيع أخذ شيء واحد معنا، هو حقا ما نريده ولا نستطيع أن نأخذه جميعا، إنه ذاكرة الزمن..
فأرواحنا وحدها هي التي تصعد إلى السماء، بينما تظل ذاكرة الزمن وأسماؤنا معلقة بين أرواح الأرض منها ما يثير الحنين إلى لقاء قديم، ومنها ما يكدر الخاطر من بشاعة تفاصيلها
لكننا بالنهاية سنظل مجرد أسماء، كشاعر فيروز حينما كتب «اسامينا شو تعبو أهالينا تلاقوها»
فرحلنا، ورحلت أمانينا، وبقى اللحن الحزين وأسامينا.