اللواء الركن م. الدكتور بندر بن عبد الله بن تركي آل سعود
في جلسة مجلس الوزراء ليوم الثلاثاء الحادي عشر من شهر جمادى الثانية 1447ه، الموافق لليوم الثاني من شهر ديسمبر 2025م، برئاسة أخي العزيز الغالي صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن سلمان بن عبد العزيز آل سعود، رئيس مجلس الوزراء، ولي العهد القوي بالله الأمين، رئيس مجلس الشؤون الاقتصادية والتنمية، تم الإعلان عن ميزانية العام القادم 1447-1448/2026.
وإثر إعلان الميزانية، أدلى سموه الكريم بتصريح ضافٍ كعادته دوماً، لم يترك فيه شاردة ولا واردة بشأن الميزانية للاستفاضة في الحديث، وهو تصريح يستحق فعلاً أن يُقْرَأ عدَّة مرات، كما أكد معالي وزير المالية، أخي الأستاذ محمد بن عبد الله الجدعان، وهو صادق، في المؤتمر الصحفي الذي أعقب إعلان الميزانية موضحاً فيه الملامح العامة للميزانية، التوقعات المالية العامة، المؤشرات الاقتصادية وتوجهات السياسات المالية.
وقد تفضَّل أخي معالي وزير المالية بتقديم أول قراءة لحديث أخي صاحب السمو الملكي ولي العهد، وإن كان على عَجَلٍ نتيجة ضيق الوقت في المؤتمرات الصحفية عادة، وعليه لن أتحدث عن أرقام الميزانية من إيرادات ونفقات وعجز، مما أصبح معلوماً بالضرورة لكل مهتم متابع، بل أقدِّم من جانبي قراءة تحليلية لحديث أخي ولي العهد الذي يستحق حقَّاً أن يُقْرَأ بعناية واهتمام للوقوف على ما بين السطور من دلالات مهمة، بل غاية في الأهمية، أوجز في ما يلي أهمها:
- الدلالة الأولى:
يُعَدُّ انعقاد جلسة مجلس الوزراء التي شهدت إعلان الميزانية، في مدينة الدمام، حاضرة المنطقة الشرقية، بياناً عملياً مهماً يؤكد ما سبق أن تداوله الإعلام من حديث لأخي ولي العهد في حفل (أهلاً بكم في 2030) الذي تم تنظيمه قبل ست سنوات تقريباً، عام 2019 على ما أذكر، إذ جاء فيه قول سموه الكريم: (أنا من الرياض، ومن جدة، ومن تبوك، ومن عسير، ومن الشرقية، ومن الحجاز، ومن نجد، ومن جازان، ومن الشمال) تأكيداً على وحدة الانتماء للوطن الذي تُعَدُّ مناطقه كلها جزءً لا يتجزأ من هويته الوطنية الكلية، بصرف النظر عن اختلاف العادات والتقاليد الاجتماعية والموروثات الشعبية من منطقة لأخرى كسائر المجتمعات. فاهتمام الدولة يشمل كل شبر من أرض هذا الوطن العزيز الغالي، الذي ليس مثله في الدنيا وطن، كما أؤكد دوماً في كل مشاركاتي الإعلامية، بل يشمل كل ذرة رمل، على امتداد ثراه الطاهر. فالوطن هو الحضن الدافئ والدوحة الظليلة التي يتفيأ ظلها الوارف كل بناته وأبنائه حيثما كانوا، وتمتد رعايته لهم حتى خارجه.
- الدلالة الثانية:
التأكيد على تلك العقيدة الراسخة لدى القيادة الرشيدة: كل هذا الحراك والجهد والعمل ليل نهار والسفر عبر القارات، غايته خدمة المواطنين في كل المجالات، وتوفير مستوى حياة رائع، يتيح لكل راغب في العمل قادر عليه فرصة عمل لتحقيق الذات، إضافة إلى تعزيز جودة الخدمات الأساسية التي تقدَّم للإخوة المقيمين والزائرين، أسوة بما توفره الدولة من خدمات لمواطنيها. وبصراحة شديدة: هذه أول مرة أسمع فيها أن دولة ما تؤكد في إعلان ميزانيتها التزامها بغير مواطنيها ممن هم مقيمين فيها أو زائرين لها. وقطعاً ليس ثمَّة شك أن الأمر يشمل بالدرجة الأولى ضيوف الرحمن من حجاج ومعتمرين.
- الدلالة الثالثة:
وهي متصلة بسابقتها: تحقيق التوازن في القطاع العقاري لتسهيل تأمين السكن اللائق، ليس للمواطنين فحسب، بل للمقيمين أيضاً والتيسير عليهم.
- الدلالة الرابعة:
تكمن في تصريح سموه الكريم عن ضرورة (تكريس مكاسب التحول الوطني للأجيال القادمة)، ويتجلى هنا معنى المسؤولية المجتمعية في أرقى صوره ونكران الذات، ضماناً لاستمرار مسيرة الخير القاصدة في هذه البلاد الطيبة المباركة. ولهذا أكد سموه الكريم على ضرورة تعظيم أثر إنجازات الرؤية لما بعد (2030)، كما أكد في لقاء له مع أحد الصحفيين، عندما سُئِل: ما ذا بعد (2030)؟، أجاب سموه الكريم دونما أدنى تفكير: (2040).. مدرسة القائد الوالد خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز آل سعود نفسه، الذي كثيراً ما يؤكد: (نحن لا نكتفي بما نحقق مهما كان عظيماً، بل نطمح للمزيد، لأن الإنسان لو أُعْجِب بما أنجز، سيركن إلى الكسل ليجد نفسه مع الوقت تأخر كثيراً عن ركب الدول المتقدمة). ويحضرني هنا أيضاً ما قاله عمر بن عبد العزيز، مع ما عُرِفَ به من زهد: (إن لي نفساً توَّاقة، ما نالت شيئاً إلا تاقت إلى ما هو أفضل منه…).
- الدلالة الخامسة:
جاء في تصريح سموه الكريم: (الاستمرار في الأعمال الإنسانية في الداخل والخارج، أداءً للواجب، انطلاقاً من المبادئ والقيم المستمدة من الدِّيْن الحنيف). فمع حاجة الدولة لكل هللة من مواردها لتحقيق مشروعاتها الكبيرة، إلا أنها لن تتخلى أبداً عمَّا تضطلع به من أعمال إنسانية تُعّدُّ من صميم رسالتها، فبلادنا رسول خير للناس كافة.
- الدلالة السادسة:
جاء في تصريح سموه الكريم أيضاً عزم الدولة على: (مواصلة السير بثبات نحو تحقيق الأهداف، مستعينين بالله عزَّ و جلّ ومتوكلين عليه) والحقيقة تبدو هنا ملاحظتان مهمتان: العزم على تحقيق الأهداف مهما كانت التحديات. وقبل هذا، الاستعانة بالله وصدق التوكل عليه سبحانه وتعالى. ويُعَدُّ هذا المبدأ الأصيل جزءً أساسياً في عقيدة قيادة هذه البلاد الرشيدة المؤمنة الصادقة وأهلها. فكل مشروع يبدأ دائماً بـ (بسم الله الرحمن الرحيم)، وكذلك كل حديث وكل قرار أو مرسوم؛ بخلاف ما نسمع في بلدان أخرى: (باسم الشعب، وباسم الأمة… إلخ). فصدق الاعتقاد والتوكل على الواحد الأحد الفرد الصمد، هو أهم عامل في تحقيق أي نجاح وفلاح.
ويعيدني هذا إلى شيء غاية في الأهمية، جاء في مستهل حديث سموه الكريم، مع أنه قد يبدو لكثيرين أمراً عادياً جداً، خاصة لجماعة: (باسم الشعب، وباسم الأمة أولئك)، إذ يقول سموه الكريم: (إن ما تحقق من إنجازات كان بفضل الله، ثم بفضل توجيهات خادم الحرمين الشريفين، الملك سلمان بن عبد العزيز آل سعود، ثم جهود أبناء المملكة وبناتها)، فالاعتراف لله سبحانه وتعالى بالفضل في كل عمل من تمام الإيمان وصدق التوكل على المنعم الوهاب. ولهذا أحسب أنني لم أتجاوز الحقيقة عندما أؤكد في كل كتاباتي: (ولي العهد القوي بالله الأمين). وهذا أمر يغفله كثيرون. والملاحظة المهمة هنا: حتى أولئك الذين يستحضرون هذا المبدأ الإيماني المهم في أعمالهم وأحاديثهم، يقولون مثلاً: (لقد حققنا هذا بفضل الله وبعزم القيادة وبجهد الشعب) مستخدمين حرف العطف (الواو) بدلاً من (ثم) ولعمري في هذا اختلاف كبير أحسب أنني لست في حاجة إلى شرحه، ولهذا وجب التنبيه إليه والتذكير به، فالله سبحانه وتعالى واحد في أفعاله، مثلما هو واحد في صفاته، لا شريك له عزَّ و جلَّ أبداً في فعل أو صفة.
- الدلالة السابعة:
تُعَدُّ رئاسة سموه الكريم لمجلس الشؤون الاقتصادية والتنمية، مع كثرة مسؤولياته أعانه الله، تأكيداً راسخاً على اهتمامه الكبير بتطبيق الخطط التنموية وتسارع وتيرتها خدمة للمواطن ورفعة للوطن وعزَّة.
وبعد:
مثلما ذكرت في مطلع المقال، لست هنا بصدد الحديث عن مقدار الإيرادات والنفقات والعجز، فتلك أمور كلها واضحة الآن للجميع بالضرورة، غير أنني أود الإشارة إلى لمحة غاية في الأهمية، تفضَّل بها أخي معالي وزير المالية محمد الجدعان، عندما أشارة إلى ضرورة عدم القلق بشأن العجز في الميزانية، لأنه يمثل رؤية إستراتيجية مستهدفة، مرتكزة على سياسات حكومية واضحة، ملتزمة بالإنفاق لتحقيق المشروعات المهمة حتى إن اضطر الأمر الدولة للاقتراض، لأن العائد في المستقبل سيكون قطعاً أعلى بكثير من التكلفة اليوم. ومع هذا تظل الإيرادات للعام المقبل أعلى مما كانت عليه العام المنصرم بنسبة (5%)، كما يظل العجز أقل مما كان عليه في العام المنصرم أيضاً بنسبة (33%).
أما إن هذه الميزانية هي أم الميزانيات، فلأنها تتويج للمرحلة الثالثة الأخيرة من مراحل رؤيتنا (2030) الطموحة الذكية. ومادام قد تحقق لنا بفضل الله سبحانه وتعالى، ثم بتوجيهات القيادة الرشيدة، ثم بإخلاص بنات هذا الوطن الغالي العزيز وأبنائه أكثر من (93%) من مؤشرات الأداء المستهدفة، فلا بد أن تشهد ميزانية العام المقبل تحقيق مزيد من الأهداف حتى قبل أن تبلغ الرؤية تمامها، ثم إن هذه الميزانية ستشهد أيضاً المباشرة في تحقيق كثير من المشروعات الإستراتيجية التي تم الاتفاق عليها مع الجانب الأمريكي أثناء زيارة أخي صاحب السمو الملكي ولي العهد الأخيرة إلى أمريكا.
ومع كل هذا الجهد المقدَّر المشكور لجميع المعنيين، إلا أنه كما أكد عرَّاب الرؤية: (الرؤية ليست وجهة نهائية، بل مسيرة مستمرة لتحقيق مزيد من الإنجاز وتعزيز مكانة بلادنا، دولة رائدة في جميع المجالات والمؤشرات العالميةـ مع التأكيد على أهمية المواطن شريكاً أساسياً في تحقيقها).
فالحمد لله عزَّ و جلَّ، المنعم الوهاب، والشكر له على ما أنعم به علينا من خير وفير، وما قيَّض لنا من قيادة رشيدة وفية مخلصة، تعمل ليل نهار من أجل سعادتنا وعزتنا وكرامتنا وتنمية بلادنا وتطويرها، لاستمرار قافلة خيرنا القاصدة إلى الأبد إن شاء الله.
فلنستمر مشمرين السواعد لتحقيق رؤية القيادة الرشيدة، غير آبهين لتلك الأبواق النَّشاز، التي يأكل نجاحنا قلبها كما تأكل النار الحطب، وقطعاً القادم أعظم إن شاء الله، وأكثر دهشة وغيظاً لأعداء النجاح.
