أصبحنا نعيش زمنًا يكتب فيه الإنسان نسخته من الواقع مع القص والحذف وإعادة ترتيب الحقائق، بحسب ما يرغب الجمهور ومتابعوه، ثم يعيش علي هذه النسخة المعدلة كما لو كانت هي الحقيقة المطلقة له، الألم، الفشل، الخيانة، الانكسار النفسي، أصبحت كلها تقدم بشكلِ معدل يجعلها أوجاعًا قابلة للهضم، أكثر جمالًا، وأقل إيلامًا، نكذب علي أنفسنا ثم نصبح ضحايا هذه النسخة المزيفة التي صنعناها. لم تعد المشكلات تعاش كما هي علي حقيقتها؛ فالصراعات اليومية وخيبات الأمل والانكسارات الشخصية ولحظات الألم العميق، كلها أصبحت تحول إلي نسخ مسلية تصلح للمشاهدة والتفاعل، وكأنها حلقة من مسلسل كرتوني يعرض على شاشة أطفال، مشاكل موجعة تقدم علي شكل ترفيه يضحك المشاهد علي موقف مؤلم أو يتفاعل مع جرح شخص آخر بلا وعي بما يعنيه هذا الألم حقًا. الخطورة هنا لا تكمن فقط في الكذب، بل في تصديقه، نصنع عالمًا مصفي تسقط فيه التفاصيل المعقدة، نخفي منها القاسي ونستبدله بالمبسط، ونعيد ترتيب كل موقف وكل خطأ يغسلنا من المسؤولية، تحول الألم الذي يجب أن يعلمنا إلي مادة تستهلك بلا وعي، إنها ظاهرة حقيقية، وليست استعارة، ففقدان الوظيفة، صراع العلاقات، الضغوط المالية والنفسية، كلها أصبحت أمورًا قابلة للتصغير والتبسيط، والنتيجة ليست ضحكًا بريئًا علي الألم، بل هو نوع من الانفصال عن الواقع، نحن نصنع من جروحنا عرضًا للجمهور، ونستهلك آلام الآخرين بنفس الطريقة، كل شيء قابل لأن يضحك ويسلي طالما يضمن التفاعل والمشاهدة، لكن ما نفعله هو تهرب من مواجهة الواقع، نسخر من صعوبة الحياة بدلًا من أن نواجهها، نحول أعمق لحظاتنا الإنسانية إلي نسخة معدلة لجني الأرباح، حين يتحول الألم إلي مادة للعرض، نفقد القدرة على قراءة الحقيقة في أنفسنا وفي الآخرين، وهذا الانزلاق يجعل المجتمع هشًا، ناقمًا، يعيش مقارنات دائمة، لأنه يربي أجيالًا تعتقد أن واقع الأخرين يمكن أن يكون لطيفًا دائمًا عكس واقعهم المر، وأن كل موقف صعب يمكن أن يختصر إلي مقطع مسلٍ ومبسط، في هذا العالم لم يعد الصمت، التفكير، أو الصبر أدوات للتقييم، بل القدرة علي تنسيق النسخة وتقديمها بأفضل صورة، وحصد المزيد من التفاعل عليها هو الهدف، وهكذا يتحول الواقع لكرتون موجع، لكنه مضحك ويسلي من يراقبه، قبل أن تعرض حياتنا علي شاشة المجتمع، علينا أن نقف ونسأل أنفسنا هل نعيش حقًا، أم نعيش نسخة مزيفة مهيأة للآخرين كي يضحكوا، الحقيقة لا يمكن تلوينها لتصبح أكثر قبولًا، ولا يمكن تحويلها إلي مشهد مضحك، مواجهة الواقع كما هو بكل قسوته وتعقيده هي وحدها ما يمنح القدرة علي التعامل مع الألم بصدق، وفهم أنفسنا بعمق، دون الانصياع لعرض مبسط يشبه أي حلقة كرتون تعرض علي “سبيستون”.
NevenAbbass@
