مقالات الكتاب

البطء.. فن مفقود في عالم متسارع

كثيرون منّا يحلمون بالابتعاد عن حياة المدن الصاخبة، والعيش في قرية صغيرة هادئة، حيث يختفي الزحام وتتباطأ الأيام. وكثيراً ما نشعر بالحنين إلى السبعينات والثمانينات، حين كانت الحياة أبسط وأهدأ وأقرب إلى النفس. أحياناً، وأنا أسافر من جدة إلى المدينة المنورة، أتوقف عند القرى المنتشرة على الطريق، أتأمل بيوتها الواسعة وأشجارها العالية وحياة أهلها البسيطة، وأتساءل: كيف تكون الحياة هنا؟ ثم أجد نفسي أغبطهم على تلك السكينة، التي لا تهزّها ضوضاء العالم.
هذا الإحساس ليس رغبة في الهروب، بل هو رفضٌ لتلك الثقافة الحديثة التي جعلت السرعة مقياساً للنجاح، والانشغال علامة على القيمة، والهدوء نوعاً من الكسل. صرنا نعيش في زمنٍ يُحسب فيه النجاح بعدد ما ننجزه، لا بجودة ما نعمله، وفيه يُقدَّر الإنسان بكمّ ارتباطاته لا بعمقها، وبضجيجه لا بفكره.
قرأت مؤخراً كتاباً لفت نظري بعنوان “البروفسور البطيء” لماغي بيرغ وباربرا سيبر، تحدّثتا فيه عن ظاهرة التسارع داخل الجامعات، وكيف تحوّلت من أماكن للتفكير والمعرفة إلى مؤسسات تجارية تُقاس إنتاجيتها بالأرقام لا بالأثر. تصف الكاتبتان كيف يعيش الأساتذة تحت ضغط لا ينتهي من الاجتماعات والتقارير والمراسلات، حتى ضاع وقت التأمل والبحث الحقيقي وسط زحمة المهام اليومية، وغابت متعة الاكتشاف أمام هوس الإنجاز.
لكن ما وصفه الكتاب لا يقتصر على الأكاديميين وحدهم، بل هو انعكاسٌ لما نعيشه جميعاً. فحياتنا اليوم تُدار بسرعةٍ مذهلة؛ نعمل ونأكل ونتحدث وحتى ننام بعقولٍ مشغولة بما ينتظرنا في الغد. أصبحنا نخاف من التوقف، وكأن الزمن سيهزمنا إن تباطأنا لحظة.
في القرى التي أمرّ بها أثناء السفر، أرى نموذجاً مختلفاً للحياة؛ الناس هناك يسيرون بخطى هادئة، يجدون وقتاً للحديث، وللراحة، وللتأمل. لا تُقاس قيمتهم بسرعة إنجازهم، بل بصفاء نياتهم وسلام قلوبهم. بطؤهم ليس كسلاً كما يظن أهل المدن، بل وعيٌ بإيقاع الحياة الطبيعي، حيث الوقت يُقاس بالرضا لا بالدقائق.
الكاتبتان لا تدعوان إلى الكسل، بل إلى ما تسميانه”الزمن الهادئ”، أي أن نمنح أنفسنا مساحة للتفكير، وأن نبني علاقاتنا ومعارفنا ببطءٍ يتيح لنا التعمق فيها. فالعقل لا يبدع حين يُستنزف، والروح لا تثمر حين تُرهق.
ورغم أن الكتاب وُجه إليه نقد بأنه ينطلق من تجربة غربية محدودة، إلا أن فكرته تصلح لكل إنسان يشعر بأنه محاصر بعجلةٍ لا تتوقف. لسنا بحاجة إلى ترك الطموح أو العمل، بل إلى إعادة تعريف النجاح والسرعة، وأن ندرك أن التمهّل لا يعني التراجع، بل هو طريقٌ أعمق نحو الإبداع.
البطء ليس عائقاً أمام التقدّم، بل هو ما يمنحنا وضوح الرؤية. من يسير بخطى ثابتة قد يصل أبعد من الذي يركض بلا هدف. فالحياة ليست سباقاً، بل رحلة تحتاج إلى توازن ووعي وهدوء حتى نفهمها ونستمتع بها.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *