في إحدى الاجتماعات، دار النقاش حول التوظيف وآلية اختيار الموظفين. قال أحد المديرين بثقة:”تسعون بالمئة من موظفي الشركة تم توظيفهم من خلالي”، متجاوزًا بذلك إدارة الموارد البشرية، التي وصفها بأنها “مُعطِّلة وتعوق سير العمل”. كان المشهد كاشفًا لحقيقةٍ تتكرر في كثير من المؤسسات؛ إذ يرى بعض المديرين أن الكفاءة والقرار الفعلي بيدهم وحدهم، بينما تُعامل إدارة الموارد البشرية كعقبة بيروقراطية لا كشريك إستراتيجي في بناء الفرق.
ولا شكّ أن القرار النهائي في التوظيف هو من صلاحيات المدير العام، لكن هل يعني ذلك إلغاء دور الموارد البشرية المتخصّصة في تقييم الكفاءات وضمان العدالة والالتزام بالأنظمة؟ أين يقف الحد بين الصلاحية الإدارية والاختصاص المهني؟ وهل يمكن للمؤسسة أن تنجح حين تُختزل معايير الاختيار في أهواء الأشخاص لا في معايير الكفاءة؟
في عالم المؤسسات الحديثة، يبدو أنّ معركة التوظيف لم تعد مجرّد بحثٍ عن كفاءات بقدر ما أصبحت ساحةً خفيّة لصراع النفوذ. فحين يقرّر المدير العام أن يفرض مرشّحًا بعينه، متجاوزًا المعايير والإجراءات، تتكشّف مواجهةٌ حادّة بين منطق السلطة ومنطق الحوكمة. هنا يطلّ دور مدير الموارد البشرية بوصفه “حارس البوابة” الذي يتولّى حماية معايير الجدارة والشفافية، فيواجه ضغوطًا متزايدة من قيادات ترى أن الصلاحية التنفيذية تمنحها الحق في التعيين المباشر بعيدًا عن المسار المؤسسي المنظّم.
مدير الموارد البشرية ليس موظفًا بيروقراطيًا يعوق سير العمل، بل هو صمام أمان، يضمن استقطاب الكفاءات وحماية المؤسسة من مخاطر التوظيف العشوائي. فهو يضع المعايير الدقيقة، ويشرف على استكمال الإجراءات القانونية، ويتأكد من أنّ كل مرشّح اجتاز اختبارات القدرات والخبرة. هذا الدور ليس ترفًا تنظيميًا، بل ضرورة تحمي سمعة المؤسسة وتكفل لها الاستمرار في بيئة تنافسية قاسية. لكن، في المقابل، يقف المدير العام أو مدير القسم التنفيذي؛ باعتباره صاحب الرؤية التشغيلية الذي يعرف احتياجات فريقه اليومية، ويرى نفسه الأقدر على اختيار الشخص المناسب، بل ويعتبر أنّ نجاح العمل يمنحه سلطة القرار النهائي. في الأصل، هذا التوازن بين المعرفة التشغيلية والخبرة الإدارية مطلوب، غير أنّ الخلل يبدأ عندما تتغلب نزعة الهيمنة على صوت العقل.
تتفاقم المشكلة حين يتحول التعيين إلى وسيلة لترسيخ الولاءات الشخصية. بعض المديرين يتعاملون مع سلطة التوظيف؛ باعتبارها حصنًا يحمي موقعهم، فيسعون إلى تطعيم فرقهم بأصدقاء أو مقرّبين يضمنون ولاءهم المطلق. هذه الممارسات تبدو للوهلة الأولى خطوة لتعزيز الاستقرار الداخلي، لكنها في حقيقتها قنبلة موقوتة؛ إذ تؤدي إلى إحباط الموظفين الأكفاء الذين يرون الجهد والمعايير يتهاويان أمام المجاملة، وتزرع شعورًا بعدم العدالة يفتك بروح الفريق ويقوّض الثقة في المنظومة كلها. والأسوأ أنّ مثل هذه التعيينات قد تجرّ المؤسسة إلى مشكلات قانونية ودعاوى تتعلق بالتمييز، أو خرق أنظمة العمل، فضلًا عن الضرر الذي يلحق بسمعتها في سوقٍ يراقب أدق التفاصيل.
إنّ العلاقة بين المدير العام ومدير الموارد البشرية يجب أن تقوم على شراكة لا على صراع. فنجاح المؤسسة لا يتحقق بفرض طرفٍ إرادته على الآخر، بل بالتكامل بين رؤية تشغيلية تحدد الاحتياجات، وخبرة إدارية تضمن النزاهة والالتزام باللوائح. يمكن لهذه الشراكة أن تتجسد في لجان مقابلات مشتركة، أو آليات تحقق مزدوجة تمنح القرار النهائي شفافية ووزنًا مؤسسيًا يقي من المحاباة. وعندما يدرك كل طرف أن سلطته ليست مطلقة، بل محكومة بنظام يعلو على الأفراد، تصبح عملية التوظيف نقطة قوة لا ساحة صراع.
لكن الواقع يكشف أنّ بعض القيادات ما زالت تعتبر الالتزام بهذه الآليات مجرّد إبطاء لخططها أو تشكيكًا في حكمها، فيندفعون إلى التعيين المباشر بحجة الحاجة العاجلة أو الثقة المطلقة في قدرات المرشّح. غير أنّ هذه السرعة المتهوّرة لا تحمي المؤسسة من أخطاء التقدير، بل تعرّضها لفوضى لاحقة قد تكلّفها أضعاف الوقت الذي اعتقدت أنّها وفّرته. إنّ بناء فرق العمل ليس مسألة ولاء شخصي، بل مشروع إستراتيجي، يضمن بقاء المؤسسة وتطورها على المدى الطويل.
التوظيف بين مطرقة الولاءات وسندان الكفاءة
