إن من أسمى معاني الإنسانية مساعدة الآخرين؛ ليحققوا مرادهم والوقوف إلى جانبهم،
وإرشادهم إلى بوصلتهم الحقيقية، وهذه المساعدة تُعبّر عن سموّ النفس وقدرتها على التعاطف مع الآخرين. أن تمد يدك لمن يحتاج، أن تخفف عن أحدهم وجعه، أو تشاركه طريقه هذا من أجمل ما يعبّر عن إنسانيتك. فالعطاء الحقيقي يزرع في قلب الفرد دفئًا، ويمنح الروح شعورًا عميقًا بالرضا والاتصال بالآخرين.
لكن، ماذا لو أصبحت هذه المساعدة قهريّة؟
حين يتحول اللطف إلى عادة لا تُكسر، والعطاء إلى التزام يُقدم بشكل اجباري لا يمكن عدم قبوله. يحدث هذا حينما يبدأ الإنسان بمساعدة الجميع في كل شيءٍ إجبارياً ، ليس بدافع الحب فقط، بل بدافعٍ خفيّ لإثبات أنه الأقدر والأوعى، وأن الآخرين بحاجة إليه على الداوم؛ كي تسير أمورهم. هنا يبدأ العطاء في الانحراف عن صفائه الأول، ويصبح وسيلة لإثبات الفهم والسيطرة بدل أن يكون مشاركة في الخير.
وبلا شك أن النمط المتعب يجعل صاحبه أسيرًا لصورة “المنقذ”. يعيش داخل دائرة لا تنتهي من الجهد، ويشعر بالمسؤولية عن كل ما يدور حوله. وفي أعماقه، يكبر الخوف من أن يتوقف فيفقد قيمته، أو أن يكتشف الناس أنهم يستطيعون الاستغناء عنه. إنها مساعدة ظاهرها الرحمة، وباطنها حاجة خفية للاعتراف والتقدير.
وتكمن المشكلة في أن هذا النوع من العطاء لا ينضج الآخرين، بل يضعفهم. فبدل أن يمنحهم مساحة للتجربة، يسلبهم فرصة النمو. وبدل أن يُشعرهم بالرضا، يُثقلهم بالإرهاق والخذلان. لأن المساعدة التي يقدمها الفرد إجبارياً لا تُجدي نفعًا لأن هدفها ليس المساعدة فقط هي محاولة إثبات الأفضلية لمن يقدمها.
ويعود هذا السلوك بأثر سلبي على من يتبعه، كما أن المساعدة الواعية لا تُلغِي الحدود، بل تحترمها. أن تساعد وقت الحاجة دون أن تُجبر الآخرين، أن تثق أن لكل إنسان طريقًا خاصًا وخبرة مختلفة، وأن دورك ليس أن تفهم كل شيء، بل أن تترك مساحة للجميع كي يفهموا بطريقتهم. فالنور لا يكتمل حين يأتي من شخصٍ واحد، بل حين نتقاسمه بوعي.
المساعدة القهرية
