تشكِّل القرارات التي نتخذها في حياتنا ،خيوطًا تنسج مصيرنا، فكل خيار مهّما بدا ضئيلاً أو ضخماً، يرسم ملامح مسيرتنا، لكن مجرد اتخاذ تلك القرارات، يشكّل عائقاً كبيراً لدى العديدين منا، فخوف ارتكاب الخطأ يلاحقنا في حياتنا الشخصية والمهنية كظل ثقيل، باعثاً التردُّد والحيرة أمام ما يستوجب علينا حسمه.
إن العجز عن إصدار الأحكام ،مترسّخ بقوة في تجاربنا، ويتعزّز ويتجذّر أكثر ، بسبب العديد من العوامل والتحدّيات، فغالبا ما يقود دفّة هذا التردُّد “الخوف من الفشل”، المعروف بتأثيره السلبي على عملية صنع القرارات.
الدكتورة كارلا ماري مانلي وهي طبيبة نفسية سريرية، تحدّثت عن كيفية تشّكيل بيئة نشأتنا لطبيعة اختياراتنا ، فالمساحات الداعمة التي ترى في الخيارات فرصًاً للتعلُّم والتطور، تغرس الثقة، بينما ينتشر التردُّد في البيئات المتسمة بالانتقاد والخوف، مكبّلة النمو ومرهقة تقدّير الذات.
للتأثير الأبوي بصمته الخاصة ضمن نطاق التردّد، فعندما يفرط الأوصياء في السيطرة، قد يسلبون أطفالهم حرية الاختيار، ليجدوا أنفسهم بعدها غارقين في الحيرة ،حين يتوجب عليهم اتخاذ قراراتهم الخاصة.
كما أن هوس الكمال ، يزيد الطين بِلّة في عالم الأفكار، مشكّلاً شبكة من القلق ،حيث يُقيَّم كل خيار تحت مجهر صارم من الخطأ والصواب.
بالنسبة للباحثين عن رضا الآخرين، فإن عملية اتخاذ القرارات ، هي بمثابة ساحة معركـة ،حيث تتصادم رغباتهم واحتياجاتهم مع توقعات المحيطين.
وقد أجادت الدكتورة هالي ، تصوير الصراع النفسي الذي يخوضه أولئك الذين يفضّلون الإستحسان الخارجي على تقرير مصيرهم الشخصي.
وبالمثل، فإن فقدان البوصلة والرؤية الأكبر للأمور، قد يجعل حتى أصغر الخيارات يبدو جبلاً، فيما تتوه مقاييسنا وسط ضباب الحيرة.
كثيراً ما يواجه الشخص المتشكّك في ذاته ، صعوبة في اكتساب الثقة التي تشكِّل عصب صنع القرارات الناجحة، وعدم الثقة بالنفس ،قادر على كبح جماح حتّى صاحب الإرادة الفولاذية عن اتخاذ خطوة حاسمة، حتّى لو كان يعرف تمامًا ما يلزم فعله.
وعلى الجانب الآخر، فإن الافتقار للمعرفة ، قد يترك المرء عاجزاً عن اتخاذ القرارات ،حتّى لو إمتلك أعتى درجات العزيمة، وهذا يسلِّط الضوء على أهمية إيجاد
التوازن الأمثل بين الثقة والفهم ،إلا أن مشاعر التردّد التي تتجاوز عند البعض مجرّد الشك، إلى هوس ملازم ، قد يصل إلى مرحلة الإضطراب المرضي. فمرض “أبولومانيا” ،أو اضطراب فقد الإرادة القابل للتّشخيص الطبي، يثقل كاهل المريض بعجز كبير عن اتخاذ القرارات، ملقيًا ظلالاً كئيبة على كافة جوانب الحياة اليومية.
كما أن الترددّد ، قد ينبئ باضطرابات صحية نفسية أشدّ، ليكون عرضًا من أعراض مجموعة واسعة من المشاكل تمتد من القلق إلى الزهايمر.
على الرغ من من سوداوية المشهد، يبقى هناك بصيص من الأمل، فمهارة اتخاذ القرارات قابلة للتطوير كأي عضلة تصبح قوية بسبب للتمرين، وذلك بالممارسة والإصرار، وباستطاعتنا إستعادة زمام أمور حياتنا عبر تهيئة مساحات ترى في الخيارات فرصًا للنمو لاعوائق.
هناك العديد من الأساليب النافعة، مثل العلاج السلوكي المعرفي وتقنيات اليقظة الواعية، القادرة على مساعدتنا حين نرتبك أمام خياراتنا، وبمواجهة مخاوفنا، وتقصي معتقداتنا ، وتقبّل إمكانية الفشل كخطوة حتمية على طريق النجاح، يمكننا تحطيم أغلال التردّد التي تقيدنا.
في لوحة الحياة الفسيحة، يساهم كل خيار، مهّما بدا تافهاً، في نسج جماليات مسيرتنا، ومن خلال فهم عدم اليقين المصاحب لعملية اتخاذ القرارات، نتمكّن من استغلال إمكاناتنا اللانهائية.
صحيح أن شبح التردُّد حاضـر دائمًا، إلا أننا في خضم خياراتنا ، نصوغ مستقبلنا خطوة بخطوة وقرار بقرار.
jebadr@