اجتماعية مقالات الكتاب

دفاعا عن الصحافة

كنت في الثلاثين من عمري عندما تقاطعت ظروف عملي مع رجل إيطالي في السبعين من عمره، يتكلم العربية بلهجة مصرية مكسّرة. وكتب اسمه الإيطالي “زانيني” على وجه من بطاقة التعريف به، واسمه الجديد بعد أن أسلم على الوجه الآخر. وقال إنه استفاد من نصيحة والده وهو غلام ألا يساير صغار الأولاد بل عليه أن يصاحب من هم أكبر منه سناً، لأنه يتعلم منهم أما الصغاٍر فيتعلمون منه.

وكان لي زميل هندي، وهو الصحفي مير أيوب علي خان، وقد سمعته ذات يوم يقول إن من أراد أن يتعلم الصحافة فعليه أن يتعلمها ممّن سبقوه في المهنة لأنه لا الكتب ولا حتى الجامعات تكفي لتهيئة صحفي ناجز.
وأذكر في هذا الصدد أن الأستاذ أحمد محمد محمود عندما كان رئيسا لتحرير “المدينة” في الثمانينات طلب إلى نخبة من رجال الفكر أن يكتبوا مقالات تحت عنوان “ماذا لو كنت رئيس تحرير” وذلك الاستئناس بزبدة قرائح عقولهم.

وكان الأستاذ رضا لاري رئيس تحرير عكاظ ثم جريدة سعودي جازيت لا يوافق على الفصل بين رئيس التحرير ومدير عام المؤسسة الصحفية بل يرى أن يكون رئيس التحرير هو نفسه المدير العام. وذلك حتى لا ينشغل الثنائي بالنزاعات فيما بينهما وينصرفا عن الهدف الكبير وهو نقل الحقيقة بصدق وتوعية الناس. لكن لما تم تطبيق هذه الفكرة الوجيهة ، وجد الأستاذ رضا نفسه خارج الحلبة. وهي مفارقة سجلها قديماً قبل ألف عام الشاعر أبو الطيب المتنبي مالئ الدنيا وشاغل الناس الذي قال:
تجري الرياح بما لا تشتهي السفن.

وكان الصحفي قبل ألف عام حسب معايير علم الحديث النبوي ،هو الذي يأخذ العلم من الصحف دون أن يجثو على ركبتيه ليتلقى العلم مشافهة من شيوخ الحديث الشريف. وهذه منقصة، حتى قالوا من كان شيخه كتابه، كان خطؤه أكثر من صوابه.
وبعد انتشار الأشرطة السمعية على أجهزة التسجيل منذ نصف قرن قال الحبيب سالم الشاطري -رحمه الله-: من كان شيخه شريطه كثرت خرابيطه.

الصحفي الناجح يستلزم خلفية ثقافية ومهنية عاليتين لتحقيق الهدف السامي في توجيه الرأي العام بالحقيقة والتعليق دون الخلط بينهما. إن الصحافة علم وفن. العلم أن تقدم الواقع كما هو. والفن أن تعطينا كيف ينبغي أن يكون عليه واقعنا.
غير أن وضع الصحافة اليوم يشبه وضع الفلسفة فقد قال الفيلسوف الدكتور زكي نجيب محمود إن الفلسفة كانت تتمحور في العصور السابقة حول قضية واحدة في كل عصر، أما في عصرنا فقد صارت كما قال الشاعر:
تكاثرت الظباء على خراش فما يدري خراش ما يصيد
ومع طغيان تسونامي التواصل الاجتماعي، فقد اختلط الحابل بالنابل ،ولم يعد هناك بمفهوم الأخ زانيني -رحمه الله-، ولد كبير.
ومن كان شيخه جواله فاقرأ عليه السلام.

aljifriM@

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *