متابعات

ابن الجزار.. أول أخصائي أطفال من المسلمين

عبدالله صقر- مركز المعلومات

بنى الأطباء المسلمون الأسس العلمية والعملية للطبّ الذي نعرفه اليوم، التي استفادت منها الحضارة الأوروبية في بنائها للطبّ الحديث، الذي نقلوه وطوّروه عن هؤلاء الأطباء المسلمين؛ كأبي بكر الرازي وابن النّفيس، المعروفين بسبب شهرتهما التي تخطّت العصور.

لكن هناك من الأطباء المسلمين المغمورين من لم يحظوا بشهرة كبيرة؛ كأمثال الطبيب ابن الجزّار، الذي سبق عصره من خلال ما توصّل إليه في علم الطبِّ.

= فهو أوّل من قرّر التخصصات الطبية، وهو أوّل طبيب مسلم يكتب في التخصصات الطبية مثل طبّ الأطفال وطبّ المسنّين، وألّف العديد من المصنّفات في العلوم الطبيّة فُقِدَ أغلبها، وقد ذاع صيته وتجاوزت شهرته الآفاق، إلّا أنّ هذا الطبيب العظيم لم ينل حظًّا وافرًا من الدراسة، كما أنّ معظم مؤلّفاته مازالت مفقودة، والكثير منها ما تزال حبيسة أدراج المكتبات تنتظر من يخرجها إلى النّور.
وذلك لأن معظم كتبه ما زالت مخطوطات لم تُطبع ولم تُنشر، كما أنها صعبة الوصول لتشتتها عبر الكثير من المكتبات الخاصة والعامة ما بين أوروبا وتونس والعالم العربي، والكثير منها ضاع في البحر غرقًا.

أول من تخصص في طب الأطفال
نستطيع القولَ بأنَّ ابنَ الجزَّار هو أوَّل طبيب عَربِي مُتَخصِّص في طبِّ الأطفال.
لم ينس ابن الجزار الأطفال والصبيان من تصانيفه الطبية الرائعة، فألف كتابه القيم (سياسة الصبيان وتدبيرهم)، الذي بقي أمدًا طويلًا من المراجع الأصيلة والأساسية في علاج أمراض الأطفال. وكتاب (سياسة الصبيان وتدبيرهم) مُؤَلَّف من اثنين وعشرين بابًا، يبحث في تدبير شئون المَوْلُودِين في حالة الصحة والمرض. وهو كتابٌ جامِع يبحث في طبِّ الأطفال والعناية بهم، وما يعرض لهم من عِلَل وأَسقام في مختلف سنيِّ حياتهم، وفي تدبير هذه الأَمراض وطُرُق معالجتها. وقد اقتبسَ منه الزَّهراوي بعضَ معلوماتِه الطبِّية.
تَكلَّم ابنُ الجزَّار في كِتابِه “سِياسَة الصِّبيان وتَدبيرهم” عن تدبير الأطفال منذ خُروجهم من أرحام أمَّهاتهم، وعن تَغذيتهم، ومَضجعهم وغَسلهم وتنظيفهم وإِرضاعهم، كما تحدث عن صفات اللَّبن وتركيبه، وعن المُرضِعات والحاضنات.

منهجه في سياسة الصبيان
نهج ابن الجزار في هذا الكتاب منهج الاختصاص في مجال طب الأطفال، وهذا الكتاب -كما ذكر عدد من مؤرخي العلوم الطبية- يحتوي على معارف علمية تتَّفق كثيرًا مع طب الأطفال المعاصر واعتمدت كتبه منهجًا في جامعة ساليرنو الإيطالية في القرن العاشر.
تظهر دوافع التأليف عند ابن الجزار في مقدمة كتابه سياسة الصبيان بقوله:” إن معرفـة سياسـة الصـبيان وتـدبيرهم بـاب عظـيم الخطـر، جليـل القـدر، ولم أرى لأحـد مـن الأوائـل المتقـدمين المرضـيين في ذلـك كتابًـا كـاملًا شـافيًا، بـل رأيت ما يحتاج من علمه ومعرفته من ذلك متفرقًا في كتب شـتى، فلمـا كـان الأمـر في ذلـك علـى مـا وصـفنا، رأيـت أن أجمـع المتفـرق مـن ذلـك في الكتـب الكثـيرة، وألفـت بعضـه إلى بعـض في هـذا الكتـاب، كالـذي يؤلـف مـن الجـوهر إكليلًا بهيًا، ويـنظم عقـدًا حسـنًا، وأضـمه جميـع مـا علمـت أن جـالينوس قالـه في ذلـك، وأضـيف إلى ما أجمعه من الكتب مبوبا…”.
يدلل كتاب ابن الجزار على موسوعية هذا العالم الفضل، وتناوله علم الطب بشكل شامل وإنساني، وعلى تواضعه فيما خطه من نقله وجمعه لما كتبه الأولون في طب الأطفال.

حيـث يعـترف بكـل فخـر أنـه اعتمـد علـى مـن سـبقه في جمـع المعلومـات الطبيـة؛ ممـا يـدل علـى سـلوكه وأمانتـه في عملـه الطـبي، حينما يعلـن وبكـل لطـف ووفـاء، كونـه لم يكـن سـوى جـامع لعيـون مـا ذكـره أفاضـل الأطبـاء أنه تجـاوز من مكنون عملهم وصحيح تجربتهم.

والحقيقة أيضا أن ابن الجزار لم يكن ناقلًا لمن سبقه- فحسب- بل كان ممحصًا ومدققًا وناقدًا.
اعتمد ابن الجزار في كتابه منهجًا علميًا متميزًا، وهو الفصل بين العلاج والدواء أثناء دراسة المرض.
فصّل ابن الجزار في الأمراض التي تصيب الأطفال ووصـفها وصـفًا دقيقًـا كـذلك مـن حيـث أعراضـها وعلاماتـها، متوخيًـا في ذلـك المـنهج العلمـي المتبـع حـديثًا في تشـخيص الأمـراض بالسـؤال عـن حالـة المـريض الحاضـرة والسـابقة، ثم الفحـص باسـتعمال النظــر واللمــس والســمع، وكــذلك فحــص الــبراز وغــير ذلــك مــن الفحــوص التكميليــة للفحــص السريري.

أمراض الأطفال
أفرد ابن الجزار أبوابًا عدة في كتابه للأمراض التي تصيب الأطفال وتعتريهم؛ ابتداء من الأمراض التي تَعرض للصبيان من الرأس حتَّى القدم، وعن تدبيرها وعِلاجها، وفيما يصيب الطفل بحسب سنِّه من الأمراض؛ كالإسهال، ورطوبة الأذنين، والتهاب السُّرَّة ونتوئها، ومعالجة السعفة في رأس الطفل، وورم اليافوخ، وانتفاخ البطن. وأبواب أخرى في داء الصرع عند الصبيان، والوجع عند خروج الأسنان، وقروح الفم عند الأطفال، وأسباب القيء.
وفي الحيات والدود المتولدة في الأمعاء، وفي الحصى المتولدة في المثانة، وغير ذلك، وختمَ كتابَه في الكلام عن طبائع الصِّبيان وعاداتهم، وهو أوَّلُ من تكلَّم عن منعكس المصِّ عندَ المولود. ومن خِلال كتابِه هذا يَردُّ ابنُ الجزَّار أسبابَ السُّعال عندَ الأطفال إلى البرد الذي يتعرَّضون له، فيقول: “وإنَّما يَهيجُ ذلك فيهم لقُرب عَهدهم بالدفء في بطون أمَّهاتهم وخروجهم إلى برد الهواء، ولأنَّه ليس لألسنتهم قوَّة على سدِّ الحَنجَرة، فيهيج السُّعال لبرد الهواء ووصوله إلى حُلوقهم وصُدورهم”.
كما يَقولُ ابنُ الجزَّار: “وقد يعرض للصِّبيان الاختلافُ والقيء في الدرجة الأولى من أسنانهم، وكذلك قال أبقراط، والسَّببُ في ذلك أنَّ الصبيان ربَّما رغبوا في كثرةِ الرَّضاع، لأنَّهم لا يَعرفون قدرَ ما يَنفعهم منه، فتكثر عليهم لِعلَّةِ ذلك رطوبةُ اللبن، فإن طفا ووحل ذلك اللبنُ في معدته هَيَّج ذلك قَيئاً”. ومن كَلامِه “يَتَداوى كلُّ عَليلٍ بأدوية أرضِه، لأنَّ الطَّبيعةَ تَفزع إلى أَهلها”.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *