يؤدّي التنفيذ الاستراتيجي للمبادرات القائمة على البيانات والتأسيس لاتخاذ القرارات الذكية إلى تحقيق تقدم مستدام في البيئات الحضرية
بقلم جلال قاوقلو، مدير استشارات العملاء لمنطقة الشرق الأوسط وإفريقيا لدى “ساس”
يعيش العالم عصراً يتسم بسرعة التحضّر، كما أن التزايد المستمر في عدد سكان المدن يفرض العديد من التحديات المهمة على المدن الحديثة. ومن أبرز هذه التحديات والتي حظيت باهتمام واسع؛ المعركة الحالية ضد تغير المناخ. وفي الوقت نفسه، بدأت تتضح معالم مفهوم المدن الذكية في جميع أنحاء العالم، حيث تلعب البيانات والتحليلات المتقدمة والتعلم الآلي والذكاء الاصطناعي دوراً أساسياً في تعزيز كفاءة البنية التحتية الحيوية. وعلى العكس تماماً من الموارد الطبيعية المحدودة، تستطيع المدن الاستفادة من وفرة البيانات لتقليل استهلاك الطاقة، وتبسيط شبكات النقل، وتقليل توليد النفايات، وترسيخ ثقافة الاستدامة، وتحديد الطريق الذي سيساعد في الوصول إلى الحياد الكربوني التام.
وعندما يتعلق الأمر بتحقيق الحياد الكربوني أو الصفر الصافي للانبعاثات الكربونية، يتبين أن الأساليب التقليدية لإدارة البيانات لم تعد كافية للحفاظ على القيمة في هذه البيئة الحضرية الجديدة المتصلة. وبات يتعيّن على البلديات و مؤسسات الدولة امتلاك القدرات التي تساعدها على الفصل بين البيانات ذات الصلة وغير المهمة، لتتولى بعدها تحليلها وفهمها من أجل التوصل إلى المعلومات المفيدة، واتخاذ القرارات الأفضل. وتعتبر التحليلات المتقدمة والذكاء الاصطناعي من العوامل الأساسية التي تساعد في الكشف عن القيمة الحقيقية المخفية في هذه البيانات المتزايدة.
تحديد فرص تقليل انبعاثات الكربون
يمكن الاعتماد على مجموعة متنوعة من المصادر لتجميع البيانات، بما في ذلك المرافق العامة، وأجهزة استشعار حركة المرور، وأنظمة إدارة الطاقة في المباني، والأنشطة التي يقوم بها سكّان المدن. ويمكن أيضاً الاستعانة بمجموعة من أجهزة الاستشعار وأنظمة إنترنت الأشياء، وفي هذه الحالات تستطيع المدن تتبع انبعاثاتها الكربونية وتحليلها مع مرور الوقت. كما يمكن الاستفادة من هذه المعرفة القيّمة لتحديد فرص تقليل الانبعاثات عبر كافة الجوانب في المدينة.
وعندما نأخذ إدارة حركة المرور نموذجاً على ذلك، نجد أنه يمكن استخدام نظام مدعوم بالذكاء الاصطناعي والتعلم الآلي، وأن يعمل على منصة تحليلات حديثة، لتقييم بيانات حركة المرور التاريخية، ودمج موجزات البيانات الحية من شبكة واسعة من المصادر، مثل كاميرات المرور وأجهزة الاستشعار وأنظمة قراءة البيانات وتطبيقات الهواتف المحمولة وبوابات الدفع. وتتيح الفرصة للاستفادة من نتائج هذا التحليل لتحسين مسارات الحافلات، وذلك بالاستناد إلى البيانات الجديدة لحركة المرور والركاب، والتنبؤ أيضاً بالأحوال المرورية غير المعتادة، مثل الحوادث وإغلاق الممرات ومناطق الازدحام غير المتوقعة، حيث يتم كل ذلك بشكل لحظي. وفي النهاية، يساعد هذا النهج في تقليل الازدحام والحد من التلوث وخفض مستويات انبعاث الكربون، وتحسين جودة الحياة لسكان المدن.
علاوة على ذلك، نجد أن العدادات الذكية وأجهزة استشعار إنترنت الأشياء قد أحدثت ثورة في طرق جمع البيانات اللحظية حول استخدام الطاقة. وتساعد التحليلات المتقدمة مرافق إمدادات الكهرباء والمسؤولين عن تخطيط المدن في تحديد المواقع ذات الاستهلاك العالي للطاقة والاستخدام في أوقات الذروة، إلى جانب الكشف عن أي احتمال لهدر الطاقة في المناطق السكنية والمباني العامة في المدينة وحتى المناطق التجارية والصناعية. وقد تستفيد المدن الذكية من هذه البيانات لإجراء تنبؤات دقيقة للطاقة، وتطوير بنية تحتية فعالة، بما في ذلك الشبكات الذكية والإضاءة الذكية، وتعزيز التغييرات البسيطة في العادات، حيث تعمل جميع هذه الحلول مع بعضها بعضاً لتقليل استخدام الطاقة، وبالتالي الحدّ من الانبعاثات الكربونية.
ومن خلال مراقبة طرق إنتاج النفايات وجمعها والتخلص منها بمساعدة التحليلات المتقدمة والذكاء الاصطناعي، تستطيع المدن تطوير استراتيجيات صديقة للبيئة لإدارة النفايات، لتسهم من خلالها في تحقيق أهداف الحياد الكربوني. وعلى سبيل المثال، يمكن ضبط مواعيد جمع النفايات لتوفير الرحلات المكلفة غير الضرورية، والارتقاء بكفاءة العمليات ذات الصلة إلى أقصى حدّ ممكن. وعلاوة على ذلك، يعتبر تبني ممارسات إعادة التدوير المبتكرة مهماً في هذا الشأن، لأنه يؤدي إلى تقليل التأثير البيئي السلبي للتخلص من النفايات.
ترسيخ ثقافة الاستدامة
يمكن للمدن الذكية استخدام التحليلات المتقدمة لمتابعة التقدم المحرز في الوصول إلى هدف الحياد الكربوني، إضافة إلى تحديد مجالات الاهتمام التي تحتاج إلى المعالجة. وعندما يتم التوصل إلى المعلومات، يمكن توظيفها للمساعدة في تثقيف سكان المدينة حول أهمية تقليل الانبعاثات الكربونية، وسبب أهمية التصرفات الصادرة عن كل شخص ومن قبل أي شركة.
ومن خلال إطلاق حملات موجّهة بدقة وقائمة على البيانات باستخدام التحليلات المتقدمة والذكاء الاصطناعي، يمكن للبلديات تشجيع الممارسات المستدامة بين السكان والشركات، وبالتالي ترسيخ ثقافة الاستدامة على مستوى المدينة. وقد يشمل ذلك تحديد الشركات التي ترغب في الاستثمار في الابتكارات البيئية الخضراء، والتشجيع على شراء السيارات الكهربائية والأجهزة الموفّرة للطاقة، وتعزيز مبادرات المباني الخضراء، والحثّ على اتباع أنماط الاستهلاك المستدامة، وغيرها.
إن الحد من الآثار البيئية وضمان استمرار توافر الموارد الطبيعية تعتبر مسؤولية جماعية. وحتى نتمكن من مواجهة تغير المناخ والتكيف معه، يتطلب مستقبل المدن المستدامة تطوير بنية تحتية فعالة تعتمد على العلم والبيانات. وعن طريق استخدام التحليلات المتقدمة وحلول الذكاء الاصطناعي لمواجهة التحديات الناجمة عن التعقيد وتنامي الحجم، يمكن للبلديات والمؤسسات العامة الاستفادة من الإمكانات غير المستغلة لبياناتها. وسواء كان الأمر يتعلق بإدارة المياه والطاقة، أو التحكم في حركة المرور المحلية، فإن توحيد هذه البيانات وفهمها، يوفر منظوراً شاملاً يمكن اتخاذه محفزاً لتعزيز الابتكار المستدام، لتصل المدن الذكية إلى الحياد المناخي التام في المستقبل.