عبد الله صقر – مركز المعلومات
(إن كتاب الإدريسي لا يمكن أن يوازن به أي كتاب جغرافي سابق له، وإن ثمت بعض أجزاء من المعمورة لا يزال هذا الكتاب دليل المؤرخ والجغرافي في الأمور المتصلة بها).
ما كتبه البارون دي سلان في عدد أبريل سنة 1841م من المجلة الآسيوية الفرنسية،
ويصف المستشرق الإسباني (بالنثيا) كتاب النزهة للإدريسي بـ « إن الكتاب حافل بالمعلومات الصحيحة في الغالب، ومادته وافرة عن البلاد الأوربية التي تسكنها شعوب نصرانية».
تفوقت خرائط الإدريسي على الخرائط اليونانية، رغم وجود العديد من النقاط المشتركة المتفقة عليها. ويتجلى هذا التفوق في مدى شمولها ودقتها في جوانب كثيرة. كما أضافت خرائط الإدريسي الكثير إلى المعارف الإنسانية، وتخلصت من كثير من الأخطاء العلمية المرتبطة بأشكال وامتداد المناطق عن الخرائط الأخرى السابقة.
الطريق يبدأ بمقياس الرسم
يعد أطلس الإدريسي أول أطلس عرفه العالم على الإطلاق، كما تعد أدق وثائق يمكن الاعتماد عليها لوصف الأرض في ذلك الوقت. بدأ الإدريسي بإعداد أدوات الرسم، واشتملت هذه المرحلة على إعداد (لوح الترسيم) وهو اللوح الذي اتخذه أساساً لتثبيت الأماكن عليه بالنسبة لخطوط الطول والعرض، بعد مقارنة هذا الأسلوب مع آخر ما توصل إليه الجغرافيون في ذلك الزمان. ولكي يتأكد الإدريسي من دقة أطوال المسافات على الطبيعة، وبما يقابلها على الخارطة، خاصة أن تقدير المسافات وصل إليه عن طريق غيره من رحالة ومتجولين، وهم يختلفون بنوع وحدات القياس بتقديرهم للمسافات، ما اضطره إلى اختبارها بمقاييس من حديد، مع مقارنة ذلك بما ورد في المصادر العلمية السابقة، وهذا الإنجاز العلمي يعتبر بمثابة مقياس الرسم في الخرائط المعاصرة.
بعد ذلك، قام بتوقيع أسماء الأماكن والظواهر على (لوح الترسيم) الذي هو عبارة عن خارطة كبيرة المساحة مسطحة مرسوم عليها خطوط الطول ودوائر العرض، بعد ذلك نقل ما وقع على هذا اللوح إلى خرائطه، دون إظهار لخطوط الطول ودوائر العرض، التي لم تظهر إلا على لوح الترسيم؛ لتسهيل تثبيت مواقع البلدان والظواهر الطبيعية؛ كالجبال والبحار والأنهار. ولكي يتحرى الدقة في تحديد المواقع ومسافاتها استعمل الفرجار لهذا الهدف.
ويضيف أ. محمد الصياد في بحثه” منهج العلماء المسلمين في البحث الجغرافي” أن الإدريسي استخدم الفرجار والمثلث والبوصلة، وهي كل ما تجمع لديه من أدوات، ومستعيناً بالجداول الجغرافية والزيجات التي وضعها من سبقوه من القدماء.
إعداد الأطلس
قسم الإدريسي النصف الشمالي للكرة الأرضية إلى 7 مناطق مناخية مختلفة معتمداً على المنهج نفسه، الذي سار عليه أكثر الجغرافيين، وهي الطريقة التي قام بها الخوارزمي وتبعه غيره مثل الفرغاني والبيروني، وهي تقوم على تقسيم المعمور إلى سبعة أقاليم مناخية على شكل أحزمة مستطيلة أفقية، تبدأ من دائرة الاستواء ومتتابعة من الجنوب إلى الشمال في موازنة دائرة الاستواء من المشرق إلى المغرب. وقد استفاد الإدريسي من هذه الطريقة، إلا أنه حدد بداية الأقاليم غرباً من بحر الظلمات (المحيط الأطلسي)، ومنتهية بالصين شرقاً.
ولما فرغ من تقسيم العالم إلى سبعة أقاليم، قام بتقسيم كل خط إلى عشرة أقسام متساوية ووضع لكل قسم خارطة توضح ما في داخله؛ بحيث أصبح عددها سبعين خارطة. وبعد الرجوع لمقدمة الإدريسي عند قوله: «ومبلغ أعداد هذه المصورات الآتية بعد هذا سبعون مصورة غير النهايتين اللتين أحديهما نهاية المعمور في جهة الشمال، وأكثرها خلاء لشدة البرد». تميزت خرائطه الجغرافية لأوروبا بدقة غير مسبوقة في أي خريطة أخرى، وقد أظهرت خرائط الإدريسي تفاصيل سواحل البحر المتوسط بدقة، كما أظهرت بوضوح منابع النيل بين البحيرات الاستوائية الكبرى. كما اشتمل الأطلس على 356 مدينة أفريقية، و740 مدينة أوروبية، و959 مدينة آسيوية. فكان بحق أعظم موسوعة جغرافية وبشرية في زمانه.
قالوا عن الأطلس
يعتبر الإدريسي مدرسة قائمة بذاتها في رسم الخرائط؛ تمثل المرحلة الثالثة من تطور الخرائط، فقد تأثر بالمرحلة الأولى الرياضية والفلكية؛ حيث اعتمد على الفلك في تحديد الخطوط العرضية السبع لبروزه في الفلك، وإن كان قد خالف هذا المنهج في تقسيمها إلى أجزاء، لا تعتمد على أساس فلكي. وقد تخلص من قيود المرحلة الثانية في اتجاهاتها الخطية القوسية كما فعل ابن حوقل. ولهذا فقد انفرد بمرحلة خاصة به تميزت بتخلصها من قيود الرسم المحلية، واتجه إلى العالمية بالإضافة إلى الخرائط الإقليمية. ويتميز منهجه أنه غطى غير المعمور من الأرض كما بين ذلك في مقدمة كتابه.
ويذكر أ. عبد الغني في كتابه” الشريف الإدريسي أشهر جغرافي” : (أننا نجد في هذا الأطلس تطور عمل الخرائط العربية في ثالث مراحله. وبدت دقة رسم الشواطئ والأنهار، وتحديد درجات الطول والعرض، ومطابقة الواقع الطبيعي. وعلى الرغم من مراعاة الإدريسي لطريقة بطليموس في رسم الخرائط، فإنه قد زاد عليه في الدقة وارتفاع المستوى في الأداء) ويؤكد لنا هذه الحقيقة المستشرق الإيطالي ألدومييلي وكراتشكوفسكي” في حسبان حقبة الإدريسي الزمنية هي الأوج الذي بلغه فن رسم الخرائط. ويعد هذا الأطلس أهم أثر لعلم رسم الخرائط العربية، بل لعله أهم أثر لعلم الخرائط الجغرافية في العصور الوسطى”. وأشاد المستشرق الفرنسي (ريسلر) بقوله:( ومصورات الإدريسي التي تعترف بكروية الأرض كانت تتويجاً لعلم المصورات الجغرافية في العصر الوسيط بوفرتها، وصحتها واتساعها).