اجتماعية مقالات الكتاب

خيال الروائي وعلم المخترع

أحياناً أفكر في براعة عقل الروائي، من وجهة نظري يكاد يكون أكثر مهارة من العالم أو المخترع، لأن الأخيرين وغيرهما تكون أدمغتهم موجهةً نحو فكرة محددة فيما الروائي لديه من خيال ما يجعل القارئ يتساءل كيف يمكن لهذه الفكرة أُن تُكتب بهذه الطريقة البارعة.

فمثلاً في رواية “كالماء للشكولاتة” للكاتبة لاورا إسكيبيل، حين ذكرت أن ماء رأس الجنين الذي انسكب معلناً ولادة البطل، ما هو إلا دموع الطفلة، حين كانت تبكي في رحم والدتها كلما قامت الأم بتقطيع البصل، ليس هذا فحسب، بل مزجت مقادير سفرة الطعام المكسيكي طيلة مواسم العام بعلاقة الحب طويلة المدى التي حرم منها الحبيبان من الزواج ببعضهما نتيجة العادات، رغم ذلك تشعر بالبهجة كلما تعمقت في قراءة الرواية.

وبالتطرق للحديث عن الطعام فرائحته التي انتقلت من المطبخ إلى جلد المرأة المفعم بزخم الشباب ورغبة العيش ثم إلى الموت، فبراعة الكاتب لها دورها في ذلك، حين يدس بين أحداث ما يكتب ما يجعلها تصل إلى أنفك، وهذا ما شعرت به حين قرأت رواية “العطر” تحفة زوسكيندالذي جعل لكل جسد رائحة مختلفة صنع منها البطل عطراً بعبوة واحدة لا يمكن تكرارها، لكنها في رباعية كاتب آخر تحولت لرائحة ورق ومكتبات وغبار وتاريخ، ففي “مقبرة الكتب المنسية” المكونة من أربعة عناوين لكارلوس زافون، رأيت من خلالها شوارع وأزقة برشلونة، فيما شعرت أني أمشي في سانت بطرسبرغ في كل مرة أقرأ فيها لديستويفسكي، بل وحفظت كل جزء من هذه المدينة نتيجة لمهارته في التوغل لعمق المشاعر الإنسانية من خلال ما كتب وترك ذاكرة خيالة المكتوب على الورق مروراً تحت ندف الثلج على الجسور والمباني إلى ملمس الورق وسيولة حبر الرسائل، نعم شعرت بذلك في كل مرة اقتنى له رواية، رغم الأعوام التي تفصل بيننا.

وفي مرة ابتلت ملابسي بالعرق نتيجة شعوري بالاختناق، حين قرأت رواية 1984 لجورج أرويل، اكتشفت فيما بعد أنها قطرات من رواية “الشيخ والبحر” لهمنغواي وعراك بحر “موبي ديك” لميلفيل.

نعم للكاتب مهارته التي تفوق قوالب العلم المصبوبة في الكتب والمعامل، رغم أن كلاهما يشتركان في الخيال فالأول يجعلك ترى وأنت على أريكتك تشرب الشاي الممزوج بأوراق الحبق، والذي أعلم أنك عزيزي القارئ ستصنع لك واحداً بعد قراءة هذا المقال والمتعة النفسية فيما المقارن به -أي صاحب العلم- يعمل لأجل أن تصل لهذا المرحلة من هذا الشعور، ولي كامل الحق في هذا التصنيف لأني من خلال أريكتي ساورتني الشكوك، وحزنت ثم تعثرت واخترقني الرصاص في مكاني، دون أن أتحرك سوى جهد تقليب الصفحات.

ورغم ذلك على الاعتراف، أنه مهما بلغ الروائي في خياله من التوسع، لا يمكن أن يصلنا شيء منه دون اختراع الورق والحبر من يد العلماء والمخترعين.

i1_nuha@

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *