اجتماعية مقالات الكتاب

خرج ولم يعد

تقول النكتة الشعبية أن هناك شيخين طاعنين في السن كانا مندهشيْن، وهما يجلسان في المشراق كعادتهما كل يوم في منتصف القرن الماضي يستمعان إلى عشرات القصص والحكايا عن التقدم التقني الذي بدأ ينتشر تدريجياً بعيد اكتشاف النفط في المملكة. لم يتعوّدا على امتطاء السيارات وركوبها وقتها، إذ كانا يعيشان في قرية وسط المملكة يمارسان حياتهما الريفية البسيطة والتقليدية بعيداً عن ضجيج الآلة التي بدأت تنتشر في الوقت الضائع بالنسبة لهما. هناك شيء واحد لفت انتباههما، وتوقّفا عن الكلام، وفتح كل واحد منهما فمه اندهاشاً عندما استمعا إلى أحدهم يخاطبهما ساخراً عن اختراع آلة جديدة يمكنها أن تعيد لهما الشباب، وتخلّصهما من الأسقام والآلام التي يشعران بها الآن، وسيرميان العصا التي يمسك بها كل واحد منهما للأبد. “كيف ذاك؟” سألا المتحدّث في وقت واحد.

أخبرهما السارد الساخر أن هذا الاختراع يجمع عجوزين اثنين في سير متحرك ثم عبر المرور داخل هذه الآلة المدهشة يخرج من الطرف الآخر منها شخص واحد جديد في ريعان شبابه. “أين ذهب الثاني؟” سألا بدهشة كبيرة إذ لا حدود يمكن أن يقف عندها العلم خاصة عندما رأيا بأم عينيهما كيف أصبح السفر إلى مكة بعد أن كانا يقضيان الأيام الطوال في الوصول إليها. أخبرهما الراوي بسخرية لاذعة أن شخصاً واحداً فقط هو نتاج عملية الدمج بين هذين العجوزين. من يضمن لي أنني سأكون الشخص الذي سيظهر من الجانب الآخر من الآلة؟، قال أحدهما وقد تراجع الاثنان إلى الخلف وأسندا ظهريهما إلى الجدار المشمس، وقد عادت إليهما أسقامهما مرة أخرى.

هذه مجرد نكتة قديمة، لكنها تحمل الكثير من الدلالات التي تكشف عن هذا التوجّس من الآلة أو التقنية التي بدأت تعصف بالإنسان منذ الثورة الصناعية الأولى وحتى الثورة الصناعية الرابعة التي نعيشها الآن حيث الذكاء الصناعي وإنترنت الأشياء والطباعة ثلاثية الأبعاد والروبوتات والتقنيات الأخرى التي لا يعرفها الشيخان الطاعنان في السن بطلا النكتة السابقة اللذان كانا يعيشان في الثورة الصناعية الثانية حيث كان التقدم منحصراً في استخدام الإضاءة الكهربائية والهاتف الثابت والسيارة.

النكتة الشعبية الخيالية التي جعلتنا نفتقد أحد الشيخين كضحية أو كبش فداء لكي يبقى الآخر حياً وشاباً نافعاً تحمل شيئاً من القراءة العميقة لآثار التقدم التقني الإيجابية من جهة، لكنها تكشف في الوقت نفسه عن آثار سلبية لها تهدّد الإنسان نفسه. لا أحد ينكر أن هذا التقدّم الهائل له فوائد عدة لا سبيل لإنكارها، لكن الأمر يقتضي أيضاً مراعاة الوجه الآخر السلبي الذي ينتظر الإنسان وهو ذلك الاتجاه الذي أدّى بالشيخين الكبيرين إلى رفض فكرة هذه الآلة برمتّها والركون إلى دفء الجدار المشمس.

لا شك في أن استخدام الروبوتات والذكاء الصناعي كما تخطّط أمازون في أحد متاجرها يبدو للوهلة الأولى شيئاً تقدّمياً مذهلاً، إلا أنه لا يمكن إنكار أن هذا الاتجاه يؤدي إلى إلغاء نسب عالية من الوظائف في المستقبل. ويمكن تخيّل الكثير من الأمثلة الأخرى التي تمتد فيه التقنية إلى أكثر من مهنة أو مجال. يكفي مثلاّ أن تشاهد هذا الارتباط العميق بأجهزة الهاتف المحمول لدى الصغار قبل الكبار لتتعرّف على الوجه الآخر للتقنية الذي يكاد يطغى على أي فوائد لها. لكن يظل السؤال الصعب الذي لا يمكن الوصول بسهولة إلى إجابة شافية حوله وهو: إلى أي اتجاه يمكن أن تأخذ التقنية هذا العالم الذي نعيشه؟
كيف يمكن إنقاذ الشيخ الآخر الذي دخل عبر هذا الآلة واختفى للأبد؟.

khaledalawadh@

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *