اجتماعية مقالات الكتاب

الذات والآخر

في أجواء المطر، وهذا الاحتفال الكبير بمتابعة السيول التي شهدتها المملكة خلال الأسبوعين الماضيين، لا يكاد يمر يوم واحد على الواحد منّا إلا وقد شاهد مقطعاً يرصد أخبار المطر عبر شبكات التواصل الاجتماعي لأشخاص يسجّلون هذا الحدث بطرقهم الخاصة والمختلفة. بعضهم يقف بجانب السيل الجارف، وهو ينهي تقريره بتحديد مكان المطر وتاريخه كما لو كان جميل عازر أو بيتر أرنيت. والبعض الآخر يرسل مقطع فيديو صامتاً من دون أن يعلّق عليه، وآخرون يكتفون بصور ثابتة لما يشاهدونه من مناظر خلاّبة للخضرة التي أحدثها السيل في الصحراء الجافة، وربما سنشاهد خلال الأيام القادمة الصور المثيرة من نبات الكمأ الثمين الذي ينتظره السعوديون على اختلاف مناطقهم ومشاربهم.

لماذا يصرً بعضنا حينما يلتقط هذه المواقف والمقاطع والمشاهد على مشاركتها مع الآخرين وإرسالها لهم في قروبات الواتس أب ونشرها في حالاته، وفي بقية شبكات التواصل الاجتماعي.
لماذا لا يبقيها في ألبوم الصور لديه، ويكتفي هو بتذوّقها وحده، دون أن يشاركها مع الآخرين، حتى لو كان هؤلاء الآخرون شخصاً واحداً؟ لماذا الآخر يمثّل عنصراً مهمًاً لديه؟

قد يكون السبب هو أن هناك حاجة فطرية ماسّة لدى الإنسان تدفعه إلى المشاركة مع الآخر، وخاصة ذلك الآخر الذي يحمل أهمية أو معنى لديه وهم العائلة والأقرباء والأصدقاء والزملاء، وتتسع الدائرة لتشمل المجتمع الذي يعيش فيه، ويشترك معه في الثقافة نفسها. أي أن النفس أو الذات لا تستطيع الاستغناء عن الآخر. الإنسان لا يستطيع العيش في جزيرة منعزلة وحده طول العمر، مهما حاول ذلك. يمكن، تجاوزاً هنا، أن نقرّب هذه الصورة عندما نقول إن الذات هي النفس التي تمثّل وعي الإنسان المفرد، بينما الآخر هو ذلك الجانب المفارق لها وهو الوسط الثقافي الذي يعيش فيه ومن حوله. وهو السبب نفسه الذي جعل علماء النفس التربوي يدركون أن الإنسان لا يستطيع أن يتعلّم بمفرده، بل بالتفاعل مع الثقافة المحيطة به وهي هنا الناس الذين يعيشون معه ومن حوله.

لقد ذهب أحد علماء النفس بالقول دون مبالغة أن النفس أو الذات تظهر إلى السطح كنتيجة إلى الشكوك حول الكيفية التي يرانا فيها الناس في محيط المجتمع الذي نعيش فيه، أي أننا منشغلون بطريقة أو بأخرى بآراء الناس بنا. ليست الذات أو النفس مجرد عمليات داخلية فقط، بل هي أيضاً نتاج التفاعل الحقيقي أو المتخيّل (الافتراضي إن صح التعبير حالياً) مع الآخرين. أنت في الواقع نتاج آرائك في نفسك وآراء الآخرين عنك، فحاول ألا تكون الهوّة بينهما كبيرة.

كلما اقتربت الصورة التي تراها عن نفسك مع الصورة التي يراها الناس عنك ارتفعت صحتك النفسية وربما البدنية. أصعب شيء يمر على الإنسان أن يعيش حالة رفض اجتماعي من المجتمع أو المحيطين به، ولعل أفضل حالة يمكن أن نستخدمها هنا كمثال على صحة هذا الرأي هي قصة الثلاثة الذين خُلِّفوا وجرّبوا حالة الرفض الاجتماعي عندما قاطعهم المسلمون وهجروهم، وقد عبّر عنهم الله -عز وجل- أصدق تعبير عندما قال في سورة التوبة (وعلى الثلاثة الذين خُلفوا حتى إذا ضاقت عليهم الأرض بما رحبت وضاقت عليهم أنفسهم، وظنوا أن لا ملجأ من الله إلا إليه، ثم تاب عليهم ليتوبوا إن الله هو التواب الرحيم).
أنت في الواقع لا شيء بدون هذا الآخر.

khaledalawadh@

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *