من أحد تعريفات الثقافة أنها تلك العوامل المشتركة في طريقة الحياة لدى أفراد مجتمع ما: قيمهم وعاداتهم وأساليب حياتهم ولباسهم وغذاءهم وغيرها من العوامل التي لا سبيل لحصرها. لكن السمة المهمة عن الثقافة أنها محلية، أي أنها تنبع من المجتمع نفسه، وخاصة تلك المجتمعات الضاربة جذورها في التاريخ. هذه المحلّية في الثقافة هي التي تخلق المفارقات والتباينات والصدامات أحياناً عندما تجتمع أكثر من ثقافة واحدة في مكان واحد. وقد لاحظنا ذلك في مناسبة كأس العالم التي انتهت مؤخراً، ونظّمتها جارتنا الخليجية العزيزة قطر بنجاح باهر.
لا شك أن بطولة كأس العالم كانت مناسبة نادرة لشعوب العالم المختلفة؛ دول العالم الأول والثاني والثالث، العربي والأعجمي، الأبيض والأسود وما بينهما، الديني والعلماني، الأعداء والأصدقاء. يجتمع بهذه المناسبة الكبيرة التي تتكرر كل أربع سنوات الثقافات كلها في مكان واحد، فتصطدم ببعضها البعض، وتتلاقح فتبرز بعض القضايا إلى السطح، ويظهر عوار بعض الثقافات وخاصة تلك الثقافة التي تعتبر نفسها المسيطرة، وتعتقد أنها تملك اليد العليا في تصدير القيم ونحن هنا نقصد الثقافة الغربية التي تمثّلها أوروبا وأمريكا الشمالية ابتداءً بإنجلترا وألمانيا وفرنسا وهولندا والبرتغال وأمريكا وكندا وبقية المنتخبات الأوروبية.
لقد تعوّدت الثقافة الغربية على أن تكون العلاقة مع بقية الثقافات ذات اتجاه واحد، أي التصدير فقط، وليس العكس وعلى العالم أن يتقبّل ذلك بصدر رحب. لا تسمح هذه الثقافة الأحادية الغربية أن تكون العلاقة عكسية. لقد تبدّى ذلك على نحو صريح عندما قام القطريون، وبذكاء شديد، بإلباس نجم كأس العالم ليونيل ميسي البشت العربي لحظة استلامه للكأس الغالية حيث رأينا كيف كانت المانشيتات في بعض الصحف الغربية، ومنها عنوان التيلغراف الشهير “التصرف الغريب الذي أفسد كأس العالم” وما قاله لاعب إنجلترا الشهير غاري لينيكر ورفضه لهذا التصرًف الذي يبدو مقبولاً جداً في الجزء الشرقي من العالم.
في المقابل، أظهرت الثقافة الغربية أمراً غير مقبول عندما أصرّت منذ بداية كأس العالم على الترويج لثقافة شاذة يرفضها قانون الدولة المستضيفة، وترفضها معظم الثقافات الإنسانية التي لا تنتمي للغرب، وكان ذلك واضحاً في الصورة التي ظهر فيها المنتخب الألماني، وكان ذلك التصرّف بمثابة اللعنة التي تطارد الألمان حتى خروجهم المبكّر والمذلّ من كأس العالم. لم يكن البشت، وهو رمز ثقافي له قيمته الثقافية الثرية في المنطقة العربية، إلا ردّاً مناسباً جاء في اليوم الأخير على تلك الغطرسة الغربية التي حاولت منذ اليوم الأول من البطولة فرض قيمها الأخلاقية الرديئة على ثقافة مختلفة عنها دون مراعاة أو احترام للقيم الثقافية السائدة في المنطقة. لم يكن من الممكن أن نشاهد ردة الفعل الغربية لولا هذه الظروف الاستثنائية التي خلقت هذه المواجهة الثقافية بين المجتمعات الأمر الذي أدّى في نهاية المطاف إلى فضح الثقافة الغربية التي كانت تتعامل مع الثقافات الأخرى بمبدأ القوة والعلاقة ذات الاتجاه الواحد منها فقط وليس إليها.
هناك الكثير من الجوانب الثقافية الأخرى اللانهائية التي تتيحها ظروف نادرة مثل بطولة كأس العالم، والتي يمكن الحديث عنها والتي اشترك في مشاهدتها الملايين من الناس. لكن هل يمكن لهذه الجوانب أن تتسرّب إلى الثقافة المحلية لمجتمع ما، وتصبح جزءاً منها مع مرور الوقت؟ هذا سؤال يستحق مقالاً آخر.
khaledalawadh@