كم يشدونا الحنين إلى عبق الماضي، وذكريات الزمن الجميل وكم كان يمتعنا الفن الأصيل، ويرضينا الدقة في العمل والابداع في الصناعات، وكم كانت تطربنا لغة الحوار وآداب الحديث، وتدهشنا قراءة القصص والروايات، وكم كان التآخي بين الناس ملفتاً للنظر ورافعاً للمجتمع، ولعل أكثر ما كان يشغل بال الانسان على مر الزمان والعصور، هو كيف سيحافظ على هذا الموروث البديع ويحميه من التدهور والاندثار، والذي هو بمثابة بصمة وراثية تحكي للعالم عن تاريخ عريق لشعوب حية لا تموت.
إن التراث الشعبي واللامادي هو ثروة كبيرة من الآداب والقيم والعادات والتقاليد والفنون التشكيلية والموسيقى والحرف المهنية، تتوارثها الأجيال جيلاً بعد جيل.
ونظراً لتغير نمط الحياة، ودخول العولمة في صميم هويتنا الثقافية، وارتهاننا إلى الأجهزة الالكترونية في جلّ معاملاتنا اليومية وتراجع قيم البطولة والولاء للأهل والأرض والأوطان ، فقد أصبحت الحاجة ملحة لإحياء هذا الموروث الجميل والاستعانة به كنوع من الفخر والاعتزاز بماض يحفز الشباب على إكمال المسيرة ويعزز تلاقح الثقافات ويصد محاولة تمييع الهوية ونسف الجذور، فلا بأس أن نُسمٍع الجيل الجديد أغاني الكلمات الصادقة واللحن الفريد، موسيقا نغمات الناي التي تريح الأعصاب وتزيل الهموم ، أن نعلمهم قرع الطبول التي تبث الحماس وتلهب المشاعر الوطنية، أن ندعوهم لمشاهدة الأفلام الجادة بعيداً عن العنف وقصص الإجرام ، ولا ضير أن نقوي مهارات الأطفال بالألعاب اليدوية مثل الصلصال وتركيب المكعبات والرسم والتلوين على الورق بعيداً عن ألعاب البلاي ستيشن وما تسببه لهم من تشويش ذهني واضطراب في المزاج، وصحي جداً أن نعود بالعادات القديمة ونشجع الأجيال على تذوق الطعام المطهو في البيوت، بعيداً عن الوجبات السريعة وما تحدثه من تخمة وإرباك في عملية الهضم على الأجسام، وقد نستمتع أكثر حين نقيم في نزل تراثية غاية في الجمال العمراني من النزول في فنادق عصرية لا حياة فيها ولا روح، وغرفهم متلاصقة إلى بعضها البعض مثل علب الكبريت، وقد يكون مفيداً جداً أن نعلم أبناءنا ومنذ نعومة أظافرهم إلى جانب دراستهم الأكاديمية، الحرف التراثية المختلفة من صناعة السجاد وحياكة الملابس الصوفية، صناعة المشالح، صناعة الخوص، التطريز على القماش ، صناعة المنتجات الفخارية والسيراميك ، صناعة االموزاييك والمصدفات، الحفر على الخشب والنحاس وغيرها الكثير، وبذلك نكون قد حفظنا هذه المهن التراثية من الضياع، وخلقنا مشاريع رائدة جاذبة للسياحة، ومصدر رزق للأجيال في المستقبل ، وكما يقال في الأمثال : صنعة في اليد أمان من الفقر.
دعونا نطهر الأجيال من الملوثات السمعية والبيئية ونقضي على التشوهات البصرية، دعونا نستريح قليلاً من صخب الحياة وضجيج المؤثرات الالكترونية ، دعونا نعيد بناء الثقة مع الآخرين بالتواصل الحقيقي وجهاً لوجه، لا من خلف شاشات صماء تفرز صداقات وهمية، دعونا نحسن انتاج ما صنعته أيدينا ليس إلا، فنحيي به ألق الماضي وننعش تألق الحاضر، “ومن ليس له ماضٍ ليس له حاضر ولا مستقبل”.
bahirahalabi@hotmail.com